تمثل اللغة أحد العوامل التى تعبر عن هوية الوطن، فهى وسيلة اتصال بين المواطنين، تجمع ولا تفرق، تزيد مساحة الفهم المشترك، وتدعم التواصل الثقافى والحضارى بينهم، مما يساعد على إنجاز أهداف قومية تحقق المصلحة العامة. ويشير تاريخ مصر الحديث والمعاصر إلى أن اللغة العربية قد واجهت الكثير من التحديات، ومن ذلك أنه فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ظهر من دعا إلى كتابة العربية بحروف لاتينية، بينما دعا بعض آخر إلى الكتابة باللغة العامية المُستخدمة فى معاملات الحياة اليومية، بالإضافة إلى نشوب معارك فكرية سببها تعدد اللغات فى المجتمع المصرى والظن بوجود تعارض بينها، إلا أن اللغة العربية (الفصحي) قد صمدت أمام تلك الدعاوى التى تحمل تشويهًا بشكل أو آخر للغة أصيلة ومتميزة، تحمل الكثير من مواطن الجمال، وتزخر بمفردات التعبير. ولكن من المؤسف أن البعض مازال يُسهم فى إضعاف اللغة الفصحي، عن قصد أو دون قصد، بوعى أو دون وعي، وأذكر من ذلك مثلًا لا حصرًا بعض شركات المحمول وغيرها من المؤسسات التجارية التى تبعث برسائل مكتوبة باللغة العامية، وكذا لافتات بعض المحال وإعلانات الطرق!!، فضلًا عن محتوى شبكات التواصل الاجتماعي، من حيث الإفراط فى استخدام العامية، وكتابة الكلمات العربية بحروف لاتينية، مما يؤثر سلبيا فى مكانة اللغة العربية، ومن جانب آخر لا يكتسب المحاور/ الشاب لغة أجنبية تمكّنه من الاستجابة لمتطلبات سوق العمل والتواصل مع العالم الخارجي. وفى تقديرى أنه لا يوجد تعارض بين الاحتفاظ باللغات الخاصة بمكونات الجماعة الوطنية فى مصر، الأمر الذى يُعبر عن ثراء الشخصية المصرية وغناها، وقدرتها على التواصل الحضاري، ومن ذلك اللغة القبطية المُستخدمة فى صلوات المواطنين الأقباط واللغة النوبية التى يتحدث بها بعض أهالينا فى جنوب مصر واللغة الأمازيغية التى يتحدث بها بعض مواطنينا فى واحة سيوة، أقول إنه لا يوجد تعارض بين تلك اللغات وبين حماية اللغة العربية والاحتفاظ بها. أذكر أننى أعددت بحثًا تحت عنوان (المواطنون الأقباط وقضية الحفاظ على اللغة العربية: قراءة تاريخية) فى كتابات صحفية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الربع الأول من القرن العشرين، نشرته (المجلة المصرية لبحوث الإعلام) التى تصدرها كلية الإعلام- جامعة القاهرة (العدد الأول: يناير 2017م)، تناولت الدراسة موقف بعض الصحف التى أصدرها المواطنون الأقباط من قضية الحفاظ على اللغة العربية، عبر كتابات صحفية متنوعة كتبها مواطنون مصريون، مسلمون ومسيحيون، حيث برزت قضية الحفاظ على اللغة العربية كواحدة من بين القضايا الثقافية والاجتماعية وقتذاك، حين كانت مصر واقعة تحت براثن الاحتلال البريطاني، الذى عمل على إضعاف اللغة العربية لصالح الإنجليزية، رغبة فى خدمة مصالح الإنجليز وسلطات الاحتلال البريطانى فى مصر. استعانت الدراسة بصحف (الوطن ومصر والمفتاح والمحيط ورعمسيس)، التى كانت مجموعة من أبرز الصحف العامة والثقافية فى تلك الفترة، كما استعانت الدراسة أيضًا بعدد من الصحف الدينية وغيرها من الصحف ذات الاهتمام بالثقافة القبطية التى صدرت فى تلك الفترة مثل (التوفيق وعين شمس والفتى القبطى الإيمان والكرمة والشمس). توصلت الدراسة إلى اهتمام عدد من المثقفين الأقباط، بالإضافة إلى عدد من مواطنيهم المسلمين، بمسألة الحفاظ على اللغة العربية، حيث تنوعت خطابات الكتابات الصحفية بدورها بين ثلاثة فرق أساسية، الأول يدعو للحفاظ على اللغة العربية، بينما يطالب الخطاب الثانى بإحياء اللغة القبطية دون سواها، أما الخطاب الثالث- وكان الأكثر وجودا- فكان يدعو إلى العناية بحفظ اللغة العربية باعتبارها لغة مشتركة بين جميع المصريين، مع الاهتمام فى الوقت نفسه بإحياء اللغة القبطية باعتبارها لغة الصلاة فى الكنيسة. إنها دعوة للاهتمام باللغة العربية، دون إغفال غيرها من اللغات الأجنبية، كالإنجليزية والفرنسية، وغيرهما من لغات لا غنى لمجتمع المعرفة عنها، فاللغة العربية تحمل الكثير من جماليات الصياغة ورشاقة التعبير، تتحلى بالبساطة والرقة وسلاسة التعبير، هى لغتنا الجميلة التى ينبغى أن نعتز بها مهما عرفنا أو اكتسبنا من لغات جديدة، ذلك أن اللغة تضمن تواصلنا وارتباطنا بالوطن الأم وتفاعلنا معًا, وهنا يأتى دور الأسرة ومؤسسات الإعلام والثقافة والتعليم، فهل نستجيب ونواجه هذا التحدى الذى يمس جانبًا أصيلًا من هويتنا. لمزيد من مقالات ◀ د. رامى عطا صديق