فى أحد أيام عام 1816 انطلق الفتى رفاعة من طهطا إلى عبق القاهرة ليلتحق بالأزهر، أبدى نجابة، فعرّفه شيخُه العطار باب بيته، نهل من العلم فى صحن الجامع وفى بيت الشيخ، وصار إماما، وجلس للتدريس فى الأزهر سنة 1821. ثم رشح الشيخُ تلميذه النجيب لإمامة البعثة المصرية التى أرسلها محمد على إلى باريس عام 1826 لدراسة اللغات والعلوم الأوروبية الحديثة. كان فى الرابعة والعشرين من عمره، ذا نفس طموحة، وحب للعلم وشغف بالبحث، من الكتب القديمة الملقاة على أحد أرصفة شارع «دانيال» بالإسكندرية التقط رفاعة كتابا بسيطا فى تعلم الفرنسية. فى السفينة عكف على الكتاب، سخر الجمعُ المسافر من محاولته التعلم فى أثناء السفر، تعلم بضع كلمات جعلته الوحيد الذى استطاع التحدث مع مستقبلى البعثة بلغتهم. فى باريس واصل الشاب الطموح تعلم الفرنسية بدأب، اجتهد وثابر، فقررت الحكومة ضمه إلى البعثة التعليمية، وبعد سنة عقد للبعثة امتحان نجح فيه بتفوق فأهداه مدير البعثة كتاب «رحلة انخرسيس» من سبعة مجلدات مموهة بالذهب، وفى السنة التالية تكرر التفوق فأهداه كتابين. أتقن رفاعة الفرنسية فى ثلاث سنوات، واختار تخصص الترجمة فترجم إلى العربية اثنى عشر سفرا، قبل أن يتقدم للامتحان النهائى هناك. انكب رفاعة على قراءة مختلف العلوم والفنون، التاريخ القديم والفلسفة اليونانية والأساطير والجغرافيا والرياضيات وعلم الفلزات والمنطق والهندسة والطب، وعاد مع البعثة وقد سبقته إلى «محمد على» تقارير امتيازه فى الترجمة، فعيّن مترجماً بمدرسة الطب، وعلم عشرين تلميذا بالمدرسة فن الترجمة. وبعد عام انتقل مترجماً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية بمدرسة المدفعية. فى ديسمبر 1829 - وهو فى باريس- انتهى الطهطاوى من ترجمة «ديوان قلائد المفاخر فى غريب عوائد الأوائل والأواخر» لديبنج Depping ، وعندما عاد إلى مصر نشر الكتاب فى مطبعة بولاق فى 13 ديسمبر 1833، وجاءت الترجمة فى قسمين: اختار للأول عنوان « سابقة»، يقصد أن هذه الترجمة لم يسبقها أى ترجمة أخرى، وفيه قدم شرحا مبسطا للألفاظ الأعجمية، مبينا أنه شرح الكلمات الغريبة فى الكتاب «مرتبة على حروف المُعجم، مضبوطة حسب الإمكان ومفسرة على الوجه الأتم ». مضيفا: ولما كانت هذه الألفاظ فى الأغلب أعجمية، فلم ترتب إلى الآن فى كتب اللغة العربية، وكان يتوقف فهم هذا الكتاب عليها، عرّبناها بأسهل ما يمكن التلفظ به فيها.. حتى إنه يمكن أن تصير على مدى الأيام دخيلة فى لغتنا، كغيرها من الألفاظ المعربة عن الفارسية واليونانية، ولو صنع المترجمون نظير ذلك فى كل كتاب تُرجم ...، لانتهى الأمر بالتقاط سائر الألفاظ المرتبة على حروف الهجاء، ونظمها فى قاموس مشتمل على سائر غريب الألفاظ المستحدثة.. فإن هذا مما يفيد التسهيل على الطلاب، وبه تحصل الإعانة على فهم كل عِلم أو كتاب. كان رفاعة هو الوحيد من بين أعضاء البعثة الذى عاد للتخصص فى الترجمة، وكان يراعى فى منهاج الدراسة إعداد المبعوثين للتخصص فى علومهم أولا، ثم إتقان اللغات الأجنبية ثانيا ليترجموا فيما تخصصوا فيه، وهو الذى اقترح على محمد على تأسيس مدرسة للألسن ينتفع بها الوطن وتغنى عن الدخيل، فأجابه، وكان عدد تلاميذها فى البداية خمسين ثم ثمانين، اختار رفاعة معظمهم. وظل ستة عشر عاما ناظرا ومديرا لها ومدرسا ومشرفا على قلم الترجمة ومصححا لكل ما يترجم بها. وأطلق عليها عند إنشائها «مدرسة المترجمين»، ثم غير اسمها إلى مدرسة الألسن العليا، ويرتبط تاريخها بتاريخ النهضة المصرية الحديثة. وعندما توقفت المدرسة ونفاه عباس الأول إلى السودان شغل الطهطاوى نفسه هناك بالترجمة الى جانب عمله، فترجم رواية فينيلون «مغامرات تليماك» وكانت بذلك أول رواية أوروبية ترجمت إلى العربية. ولما تولى إسماعيل أعاد افتتاح الألسن وقلم الترجمة وعين رفاعة ناظراً لهما، وكان من السهل عليه أن يجمع شتات تلاميذه وزملائه لتعود المدرسة إلى نشاطها وتستأنف معها حركة ترجمة جديدة ثرية ومتنوعة. ترجم رفاعة أوبريت «أوفنباخ» «هيلين الجميلة» ونشرها عام 1869، وكان واعيا إلى أهمية إثبات تواريخ الوقائع والأحداث التى يمر بها فأثبت فى أخر ورقة «رقم 86» أنه «طبع بمطبعة بولاق 17 رمضان سنة 1285»، الموافق 31/12/1868. كان رفاعة ما إن يفرغ من قراءة كتاب فى أى علم أو فن حتى يقبل على ترجمته، يريد بذلك أن ينقل لديار الإسلام وبنيه هذا العلم الجديد عله يبعثهم إلى نهضة جديدة.