ولاء التمامي تشارك في مؤتمر العمل الدولي بجنيف    البورصة المصرية تصدر الدليل الاسترشادي المحدث لقواعد التداول    القصير يدعو لتحليل الجودة والجدوى الاقتصادية لزراعة الكسافا    مخاوف من حرب مفتوحة    السر في "النينيو".. خبير مناخ يوضح سبب ارتفاع درجات الحرارة هذا العام (فيديو)    بعثة منتخب مصر تغادر لغينيا بيساو على متن طائرة خاصة    زيدان: مبابي سيصنع التاريخ وسيتخطى جميع لاعبي ريال مدريد    اتحاد جدة يستقر على رحيل جاياردو قبل معسكر أوروبا    موعد إعلان نتيجة الشهادة الإعدادية بالفيوم    قضايا الدولة: 12 مليون جنيه غرامة إتلاف الشعاب المرجانية بالغردقة    مواعيد قطارات عيد الأضحى.. تعمل بداية من 10 يونيو 2024    المشدد 5 سنوات لمتهم في قضية حرق «كنيسة كفر حكيم»    فتاة بدلا من التورتة.. تفاصيل احتفال سفاح التجمع بعيد ميلاده الأخير    «إسعاد» بمسرح العرائس    الموسيقيين تنفي اجتماعها غدا للتحقيق في واقعة عمرو دياب    انطلاق مهرجان نجوم الجامعات    في خدمتك | تعرف على الطريقة الصحيحة لتوزيع الأضحية حسب الشريعة    العشرة الأوائل من ذي الحجة .. هل هي الليال العشر ؟    حياة كريمة في أسيوط.. تطوير 98 وحدة صحية لخدمة القرى    «صحة المنيا» توقع الكشف على 1237 حالة بقافلة طبية في بني مزار    عند المعاناة من متلازمة القولون العصبي.. ماذا تأكل وماذا تتجنب؟    وليد الركراكي يُعلق على غضب حكيم زياش ويوسف النصيري أمام زامبيا    ب«750 ألف يورو».. الأهلي يحصل على توقيع زين الدين بلعيد لمدة 4 سنوات    وزير الصحة يحيل المتغيبين عن العمل للتحقيق بمستشفى مارينا    بالصور- ننشر أوائل الشهادة الإعدادية الأزهرية بجنوب سيناء    مصر تواصل جهود تقديم المساعدات الإنسانية لقطاع غزة    مهرجان جمعية الفيلم يعرض فيلم «علم».. وفلسطين حاضرة بقوة (صور وتفاصيل)    ناقد فني: نجيب الريحاني كان باكيًا في الحياة ومر بأزمات عصيبة    سما الأولى على الشهادة الإعدادية بالجيزة: نفسى أكون دكتورة مخ وأعصاب    هيئة الدواء في شهر: ضبط 21 مؤسسة غير مرخصة ومضبوطات بأكثر من 30 مليون جنيه    لماذا الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم؟.. مركز الأزهر العالمي يُجيب    عاجل| 6 طلبات فورية من صندوق النقد للحكومة... لا يمكن الخروج عنهم    وزيرة التخطيط تبحث سبل التعاون مع وزير التنمية الاقتصادية الروسي    وفد من السفارة الألمانية يزور الجامعة اليابانية لبحث التعاون المشترك    الدفاع الروسية: قوات كييف تتكبد خسائر بأكثر من 1600 عسكري وعشرات الطائرات المسيرة    فريد زهران: ثورة 25 يناير كشفت حجم الفراغ السياسي المروع ولم تكن هناك قيادة واضحة للثورة    الأهلي يحسم صفقتين ويستقر على رحيل موديست    محافظ المنيا: توريد 373 ألف طن قمح حتى الآن    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة خلال مايو 2024    80 شهيدا وعشرات الجرحى فى غارات إسرائيلية على مخيم النصيرات ومناطق بغزة    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير 142 مخالفة عدم الالتزام بقرار غلق المحال    وزير الأوقاف: الأدب مع سيدنا رسول الله يقتضي الأدب مع سنته    "اهدى علينا".. رسالة من تركي آل الشيخ إلى رضا عبد العال    راديو جيش الاحتلال: تنفيذ غارات شمال رفح الفلسطينية مع التركيز على محور فيلادلفيا    الفوج الثاني من حجاج «المهندسين» يغادر إلى الأراضي المقدسة    كاتب صحفي: حجم التبادل التجاري بين مصر وأذربيجان بلغ 26 مليار دولار    رئيس جامعة المنوفية: فتح باب التقديم في المبادرة الوطنية للمشروعات الخضراء الذكية    أستاذ علوم سياسية: مصر بذلت جهودًا كبيرة في الملف الفلسطيني    النائب علي مهران: ثورة 30 يونيو بمثابة فجر جديد    التوقعات الفلكية لبرج الحمل في الأسبوع الثاني من يونيو 2024 (التفاصيل)    صور.. بيان عاجل من التعليم بشأن نتيجة مسابقة شغل 11114 وظيفة معلم مساعد فصل    كريم محمود عبد العزيز يشارك الجمهور فرحته باطلاق اسم والده علي أحد محاور الساحل الشمالي    جولة مفاجئة.. إحالة 7 أطباء في أسيوط للتحقيق- صور    تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري يتصدر المباحثات المصرية الأذربيجية بالقاهرة    بيطرى شمال سيناء: تواصل الجهود لضمان سلامة الأضاحى قبل عيد الأضحى    افتتاح المكتب الوطني للوكالة الفرانكفونية بمصر في جامعة القاهرة الدولية ب6 أكتوبر (تفاصيل)    إبراهيم حسن يكشف كواليس حديثه مع إمام عاشور بعد لقطته "المثيرة للجدل"    الإفتاء: الحج غير واجب لغير المستطيع ولا يوجب عليه الاستدانة من أجله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عندما تصبح «أبراج تقوية المحمول» سكنًا..
بيوت بلا أبواب!!

► أسر تعيش شبه حياة فى غرفة بلا «حمام».. وأطفال يلهون بسعادة برغم ما ينتظرهم من مخاطر
► د.أيمن رجب: تأثير الموجات الكهرومغناطيسية للهوائيات «الأنتينا» نطاقها 6 أمتار مربعة.. ومصر تطبق الاشتراطات الدولية
► رئيس جهاز أكتوبر: غير مسموح ببناء حجرات للخفراء أسفل الشبكات .. ولو حدث نقوم بإزالتها

عند المرور بجوار شبكة لتقوية التليفونات المحمولة «مزروعة» فى منطقة خالية نسبيًا من السكان نلاحظ – جميعا- أطفالا يلهون فى سعادة، يرتدون ملابس تشبه الملابس، ويلعبون بمكونات تشبه الألعاب الحقيقية، ولكنها من صنع أيديهم .. أطفال لا حول لهم ولا قوة فى هذه الحياة، كل ذنبهم أنهم ينتسبون لأبوين - لن نقول مقصرين فى رعايتهم - بل مجبرين على العيش هكذا، بعد أن تراكمت عليهم الديون مما دفعهم دفعًا إلى اختيار هذا الوضع لتكملة رسالتهم مع أولادهم ولو بأقل القليل من الزاد والرعاية.
لن نتوسع هنا فى الحديث عن مخاطر شبكات التقوية على صحة المواطنين، ولن نجتر كلامًا مستهلكًا لخبراء اجتماعيين، بل سنطرح قضية تحتاج إلى حل فورى، عسى أن يتحقق الحلم لهؤلاء الناس.
أما القضية فهى «ظاهرة» السكن تحت أبراج تقوية المحمول فى بيوت بلا أبواب، وأما الحلم فهو توفير «شقة» بها باب وشباك ودورة مياه.
بعد رصد لهذه الظاهرة – التى انتشرت بكثرة فى الفترة الأخيرة - لعدة أسابيع من خلال مراقبة «معيشة» ساكنى أبراج تقوية المحمول فى أماكن مختلفة بمدينة السادس من أكتوبر، عقدت العزم على الاقتراب من هؤلاء الناس لمعرفة قصتهم عن قرب، والإجابة عن السؤال الذى شغل تفكيرى طوال فترة الرصد.. لماذا اتخذوا من «أبراج تقوية المحمول» سكنًا؟ على الرغم من فرار الناس من أى مكان به «شبكة تقوية» خوفا من مخاطرها على صحة الإنسان، وكنت على يقين أن الحديث معهم سيريحنى، حتى وإن رفضوا نشر كلامهم فى الجريدة.
فى الساعة الثالثة عصر الأحد 22 يوليو الماضى – كان يوما شديد الحرارة- جهزت الكاميرا والأوراق، وخرجت قاصدا « برج تقوية»، يقع فى المجاورة الثالثة بالحى السابع، مررت من أمامه عدة مرات، وأنا أفكر كيف السبيل إلى مدخل يقنع ساكنيه بالحديث معى «كصحفى» بدون خوف، فأنا أعلم جيدا بأننى إذا نجحت فى المحاولة الأولى، فالباقى سهل، من منطلق أن كل مجموعة سكان يعيشون فى أماكن متشابهة يعرفون بعضهم البعض.
كان محمود محمد عبدالحميد – شاب ثلاثينى أسمر البشرة من كثرة تعرضه لأشعة الشمس – محنى الظهر على عدة «أقفاص» من الفاكهة المختلفة على حافة الطريق وهو يلبى طلبات الزبائن، وبعد أن أنفض الناس، تقدمت إليه، فبادرنى: أؤمر يا بيه، فعرفته بنفسى، مردفاً: بأن هناك شققا سوف تطرح قريبا لمحدودى الدخل ومن ضمنهم الناس الساكنة أسفل « أبراج تقوية المحمول»، فتبسم ضاحكًا، فعرفت أنه لم يقتنع، فسألته عن محافظته، قال: بنى سويف، فقلت وأنا من «قنا»، قال: أجدع ناس، وضحكنا معًا، فقال: «هاتى قفص يا بت للبيه يقعد على واعملى شاى».
أخرج محمود من جيبه عدة إثباتات شخصية، وقال: أكتب البيانات براحتك، وبدأ يحكى لى قصته منذ أن ترك محافظته عام 2005 بصحبة زوجته وطفل وحيد هو حسام ( الآن 13 عاما)، واستقر به الحال فى شقة بالإيجار، وكان يعمل فى أكثر من مكان «باليومية»، ونتيجة ارتفاع أسعار الإيجارات، فى الفترة الأخيرة تراكمت عليه الديون، فقرر فى عام 2013 أن يعمل «خفير» على محطة تقوية المحمول مقابل 300 جنيه شهريًا والإقامة فيها مع أسرته.
انقطع الحديث مع محمود أكثرة من مرة بسبب تلبيته لطلبات الزبائن، حتى إنه مازحنى قائلا: «وشك حلو يا أستاذ»، وتكمن مشكلة هذا الشاب الذى يعول 4 أبناء وزوجته، الذى أخبرنى بها ولم يخبر أى إنسان آخر – حسب قوله- أن ابنه الصغير مروان الذى يبلغ عاما واحدا فقط ولد مصابا بتقوس فى أطرافه السفلى (هو الطفل الوحيد الذى ولد وهم مقيمون أسفل شبكة تقوية المحمول)، وجميع أخوته الثلاثة ( حسام ويوسف ومحمد) ولدوا قبل انتقالهم لهذا المكان، وجميعهم معافو البدن، إلا هذا الطفل.
فسألته: وماذا كان تشخيص الأطباء؟، أجاب وهو يغالب دموعه: عيب خلقى ( أى فى مرحلة تخليق الجنين ونموه) مكملا، «لكن أنا حاسس أنه بسبب الشبكة دى»، فسألته: هل أخبرت الأطباء بأنك تعيش أسفل شبكة تقوية محمول منذ 5 سنوات، فقال: «كرامتى تمنعى كل مرة أن أقول للأطباء ذلك»، على الرغم من أننى أجريت له 4 عمليات جراحية، ولكن دون فائدة، فقلت: هل يوجد أى قريب من عائلتك أو عائلة زوجتك كان مصاب بتقوس أطراف؟، فكانت إجابته قاطعة: لا، مكملا: «هخلى حسام ياخدك بالتورسيكل وتروح تشوف أخويا عايش فى شبكة بالحى السادس علشان تتأكد».
قبل أن نغادر هذه «الشبكة» ألقيت نظرة على الحجرة التى أسفل شبكة تقوية المحمول ويعيش فيها 6 أفراد، فهى بلا أى مبالغة (2متر فى 2 متر)، بها كنبة للنوم عليها، وجميع الأجهزة «القديمة طبعا» فى أماكن متفرقة خارج الحجرة .. فطلبت من محمود تصوير الطفل مروان، فوافق وهو يردد: «يمكن ربنا يجعل شفاه على إيديك).
«أنا والدليل الشقى»
أتى حسام بالتروسيكل الذى سيقوده بنا فى باقى جولتنا، ركبت فى المربع الخلفى «وفرشوا» لى بطانية قديمة لأجلس عليها حماية من «المطبات»، وبمجرد أن أنطلق سمعت صوت والده: « بالراحة على الأستاذ يالا»، ولكن حسام صاحب ال 13 عامًا كأن لم يسمع شيئًا، طلبت منه أن يقود ببطء أكثر من مرة، وكان رده الجاهز: «متخفش يا أستاذ أنا بسوق عربية».
كانت سرعته وشدة الهواء كفيلة بمنع وصول صوتى له، فأشرت له بالتوقف ليسمعنى، وقلت له: « أنا عاوز أتنين أو تلاته عايشين فى شبكات تقوية محمول قبل ما نروح لعمك فى الحى السادس»، فقال: «فى التامن فى ناس أعرفهم»، وانطلقنا نحو الحى الثامن.
فى منطقة شبه صحراوية توقف حسام أمام شبكة تقوية، ترجلت أنا وهو بجوارى، كان رجلا خمسينيا يجلس على الأرض وسط 4 بنات، الكبرى فتاة عشرينية تضع أختها الصغيرة فى «حجرها» وتسرح لها شعرها، والباقون يلهون على جبل يتوسط شجرتين .. قصصت له نفس حجتى التى قلتها للأسرة الأولى.
فقال لى حسين محمد عبود: «الفقير لا يذكر فى الدنيا، أنا قدمت على شقة مرة واحدة، فطلبوا عقد إيجار، حاولت أعمل عقد إيجار «وهميا»، المالك طلب منى 1500 جنيه، فقلت لو معايا المبلغ أولادى أولى به».
عم حسين الذى يعيش أسفل شبكة تقوية المحمول منذ 2009 كان يعمل «حارس عقار» وبسبب معاملة غير أخلاقية مع زوجته وبناته الكبار قرر ترك العمل والاستقرار أسفل «الشبكة» التى يرى أن أخطارها أرحم من معاملة البشر.
سألته: « أنت مش خايف على الأطفال من الأمراض اللى بنسمع عنها؟»، ضحك بملء فيه، وقال: « إذا كنت مش خايف على نفسى هخاف على العيال»، سألته: ومن أين توفر نفقات المأكل والمشرب؟، فقال: « ربنا مبينساش حد»، وأضاف: «بربى خرفان وماعز للغير، وبعض الطيور، وبحصل على راتب خفير للشبكة 300 جنيه، وربنا بيقضيها»، قلت: «بتاخد المرتب من مين؟»، قال: «من العرب».
وأكمل وهو يشير بأصبعه على ابنته الكبرى: « البت الكبيرة دى فرحها الشهر الجاى، وشكل الجوازة مش هتم زى كل مرة، والله ادينا 50 وعدا لخطيبها ونخلف بسبب أن مفيش فلوس نجهزها».
واختتم كلامه قائلا: «حضرتك لو دخلت جوه مش هتلاقى سرير ننام عليه.. متتعبش نفسك يا أستاذ ومتتعبناش معاك».
العرب «ملوك الصحراء»
تركنا عم حسين أنا وحسام «الدليل»، وقال لى: «فى ناس تانية فى طريقنا فى الحى 11»، قلت: «اطلع عليهم»، وفى الطريق سرحت فى «العرب» الذين يتعاملون مع الصحراء على أنها ملك لهم، فلا تستطيع أى شركة محمول أن تزرع شبكة تقوية فى منطقة صحراوية، بدون استئذان «العرب» وفى المقابل يحصلون على حق «حراسة» الشبكة بمقابل مادى شهرى ثابت مدى الحياة، ومن الباطن يعين «العرب» خفرا براتب 300 جنيه شهريا مقابل الإقامة والعيش أسفل الشبكة.
فوقت على صوت «الدليل»: وصلنا يا أستاذ، نزلت من التروسيكل، فتقدم إلينا رجل أربعينى يدعى «شعبان» ورفض تكملة اسمه، لم يشغلنى باقى الاسم بقدر انشغالى بحياته وعيشته، فقال لى: «عايشين هنا من 7 سنين، أنا ومراتي و8 أبناء ولد و7 بنات، فسألته أولادك بيروحوا مدرسة، فقال: « فيهم 2 فى المدرسة أهو تضييع وقت على الفاضى».
وأضاف شعبان الذى ترك محافظة المنيا من أجل تحسين أحواله: « العيشة هنا أحلى من الإيجار، على الأقل مفيش فواتير كهرباء ولا غاز ولا مايه»، فقلت له: «بس فى أمراض»، فقال ضاحكا: « عايشين هنا لينا 7 سنين مفيش أى حاجة حصلت، وأنت شايف العيال قدامك زى الفل».
«خايفة على الجنين»
هنا كان الليل قد بدأ يدخل على استحياء، فقال «الدليل»: «أنجز يا أستاذ، هنتاخر على عمى علشان تعرف تصور فى النور، وركبنا التروسيكل وانطلقنا.
وبعد ميدان ليلة القدر ببضع كيلو مترات وفى منطقة صحراوية، توقفنا بجانب محطة تقوية محمول أمامها عدت شجيرات تجلس تحتها أسرة مكونة من زوج وزوجة وطفلين ( عمر 11 عامًا ومحمود 8 أعوام)، فالزوج هو شقيق محمود وعم «الدليل حسام» والزوجة شقيقة زوجة محمود، فهما شقيقان تزوجا شقيقتين، ومن ترتيب القدر أنهما جميعا يعيشون أسفل شبكات محطات المحمول.
استقبلنا سيد محمد عبدالحميد شاب - على مشارف الأربعينيات من عمره-، كان سيد منكسرا شكلا وحديثاً، وكأن حمل جبل ملقى على كتفه، وقبل أن أبدأ معه الحديث، طلبت التقاط بعض الصور، وفجأتنى زوجته عندما قالت: « لو عاوز تصور من جوه تعال»، فدخلت، وجدت غرفتين أسفل الشبكة تحيط بهما «المواتير» واحدة بها مرتبة على الأرض، فقالت ضاحكة: « دى أوضة النوم»، والأخرى بها بعض الأجهزة القديمة المتهالكة، فقالت: «دى الصالون والمطبخ»، وأكملت: « على فكرة مفيش «حمام»، فلم أعقب، ولكن روحها المرحة شجعتنى أن أطلب تصوير أطفالها وهم جالسون على المرتبة التى ينامون عليها، ولكن ملامح وجهها انقلبت للنقيض وهى ترفض ظهور وجوه أطفالها، خوفا من مشاهدتهم فى محافظتهم «بنى سويف»، فتوصلنا لحل وسط بأن أقوم بتصوير الأطفال دون اظهار وجوههم، فوافق سيد، ولكن الزوجة تنحت جانبا لكى تمسح دموعها.
قال سيد: « اأحنا بنام بره الشبكة، وبنخلى الأطفال جوه الأوضة خوفا عليهم من الكلاب والثعابين والحرامية»، وبنعيش يوم بيوم، وبقوم من الفجر لأجمع الكراتين من الشوارع ومن صناديق الزبالة وبيعها لأحد المصانع، وممكن أجمع فى اليوم 20 أو 30 كيلو، والكيلو ب 2 جنيه ونصف، ومرتب خفير 300 جنيه».
وتدخلت الزوجة فى الحديث: «يا ريت الحكومة تعمل حاجة لينا، أحنا تعبنا من العيشة دى»، فسألتها: «أنتوا عاوزين أيه؟»: فقالت: « لو على العوز احنا عاوزين كتير، لكن الحمد لله».
ولم تخف الزوجة أنها «حامل» منذ 3 أشهر، فسألتها مازحا: «عاوزين عيال تانى ليه؟»، قالت: « لى 11 سنة نفسى فى بنت، وربنا مبينساش حد، وزى ما ربنا بيأكل واحد قادر يأكل 10، ربنا اللى بيأكل مش أحنا».
وبدموع ظاهرة هذه المرة قالت: « خايفة يحصل للجنين زى اللى حصل لابن أختى «مروان» لأن ده أول طفل لى هيتولد تحت الشبكة»، فسألتها: «بتابعوا مع دكتور؟»، قالت: « مفيش فلوس نروح بيها للدكتور، وطلبت من سيد نرجع البلد، لكن مفيش مكان هناك نقعد فيه».
فقام سيد بتغيير مجرى الحديث قائلا: « تشرب شاى»، فقلت: «شربت كتير قبل ما أجى» ونظرت للزوجة دون أن أتكلم، فقالت: « التلاجة بايظة، والمروحة محتاجة ماتور ب 200 جنيه، وسألنا على المروحة الجديد لقناها ب 700 جنيه، والجو هنا حر نار، واحنا من بعد الضهر بنرش ميه بره الشبكة تحت الشجر وبنقعد».
قاطعنا سيد للمرة الثانية: « تشرب شاى»، فقلت: « مش عاوز شاى»، قال: « أصل مفيش حاجة غير الشاى نعزم عليك بيها»، فضحكنا كلنا، وتذكرت المثل «هم يبكى وهم يضحك».
الموجات الكهرومغناطيسية .. والأطفال
شكوك محمود فى إصابة ابنه مروان، وخوف زوجة سيد على جنينها، دفعنى للتواصل مع الدكتور أيمن رجب - أستاذ الهوائيات وانتشار الموجات بهندسة حلوان- لمعرفة مدى تأثير الموجات الكهرومغناطيسية على الأطفال، وأكد أن «تقوس» الأطراف السفلى «الرجلين» ليس من ضمن الأمراض التى تسببها الموجات المنبعثة من هوائيات الشبكات، ومنها سرطان الدم واضطراب ضربات القلب، والتى تحدث عند التعرض المباشر لتلك الموجات بصفة مستمرة وليس على فترات، موضحا أن الأسر التى تعيش أسفل شبكات تقوية المحمول لن تؤثر تلك الموجات على صحتهم لبعد الهوائيات أو (الانتينا) عنهم لأنها توجد أعلى برج التقوية الذى يصل ارتفاعه إلى أكثر من 15 مترا، مضيفا أن تأثير الموجات يكون فى نطاق 6 أمتار مربعة فقط بجميع الاتجاهات، ولذلك يكون من أهم الشروط الدولية التى تطبقها مصر لتثبيت محطة تقوية هو عدم وجود مبان سكنية على بعد 4 أمتار من جميع الاتجاهات، وألا تقل المسافة الأفقية بين الهوائيات والعنصر البشرى عن 6 أمتار فى اتجاه الشعاع الرئيسى، وأن تكون المستشفيات على بعد 10 أمتار، وألا توجد مدرسة أطفال على بعد 20 مترا، وإلزام شركات التليفونات المحمولة عند تركيب المحطات بالمواصفات العالمية الخاصة بكثافة القدرة الكهرومغناطيسية المنبعثة من الهوائيات، طبقا لمعايير منظمة الصحة العالمية، ومعهد المعايرات القومى الأمريكى، واللجنة الدولية للتقنيات الكهربية، والمفوضية الدولية للإشعاع، والجمعية الدولية لمهندسى الكهرباء والإلكترونيات.
كما أكد الدكتور رجب أن تثبيت شبكة تقوية المحمول لا يتم إلا بعد موافقة الجهاز القومى لتنظيم الاتصالات والمعهد القومى للاتصالات ووزارتى الصحة والبيئة.
وحول إقامة الأسر أسفل تلك الشبكات يقول: من الطبيعى والمتعارف عليه أن يعين «خفير» على الشبكة، ولكن من غير الطبيعى أن يقيم الخفير وأسرته إقامة دائمة أسفل المحطة، ومن الناحية العملية يفضل ألا يتواجد الخفير تحت المحطة طوال الوقت، لأن التواجد الدائم من الممكن أن يسبب مشاكل صحية نتيجة قربه من المواتير الموجودة أسفل الشبكات والتى تخرج منها موجهات كهرومغناطيسية حتى وإن كان تأثيرها ضعيفا نسبيا.
البناء أسفل الشبكات .. مخالفة
فى اتصال تليفونى مع المهندس عصام بدوى - رئيس جهاز مدينة السادس من أكتوبر- قال دورنا هو منح التراخيص لشركات الاتصالات بالمكان والمساحة المحددة التى يبنى فوقها «أبراج التقوية»، بعد استيفاء تلك الشركات لجميع الموافقات من الجهات المختصة وأهمها وزارات الاتصالات والصحة والبيئة.
وأضاف: غير مسموح بناء حجرات أسفل الشبكات، موضحا أن تلك الشركات تقوم بتعيين «خفير» لحراسة الشبكة، وإذا قام الخفير ببناء حجرة أو «عشة» يقوم الجهاز بإزالتها على الفور، لأنه غير مسموح بذلك.
.....................................................................
هنا قررت وضع نهاية لهذا التحقيق، ففى البداية نويت زيارة أكثر من مدينة جديدة إلى جانب مدينة 6 أكتوبر للالتقاء بأسر أخرى تعيش أسفل شبكات تقوية المحمول، لكنى توصلت إلى نتيجة وهى أن جميع من يعيشون فى هذه الأماكن قصصهم قد تكون متشابهة فى ترك محافظاتهم للبحث عن مصدر رزق، وعدم توافر مسكن أدمى يعيشون فيه بسبب قلة دخلهم المادى، والاختلاف الوحيد ربما سيكون فى تعداد كل أسرة.
ومن منطلق الأمانة المهنية، نرفع رسالة هذه الأسر – ومئات غيرهم- إلى الحكومة، ورسالتهم مشروعة وهى الحصول على وحدة سكنية «شقة» فى الإسكان الاجتماعى، مكان آمن يعيشون فيه له أبواب وشبابيك، تحميهم من لهيب الصيف وزمهرير الشتاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.