منذ عدة سنوات استحدثت دار الكتب والوثائق القومية سلسلة جديدة من إصداراتها، تحت عنوان «أوائل المطبوعات المصرية». تعيد فيها طبع الكتب ذات القيمة التى صدرت فى التاريخ المبكر للنهضة القومية التى تحررت مع أواخر القرن التاسع عشر مما كان يرين عليها من غموض وتكلف. أشرفت على هذه السلسلة د. آمنة حجازى رئيسا للتحرير، وقدمت فى عددها الخامس، الذى صدر فى 2012 «كتاب الوطنية» لكاتب غير معروف يدعى محمد مختار، طبع على نفقته فى المطبعة العامرية الشرقية فى 23 صفحة عام 1893، أى منذ 125 سنة، وهى المرحلة التى نشأت فيها الصحافة وبدأت السينما، والدعوة لافتتاح جامعة أهلية، والعناية بالآثار، وتولد فى ظلها الشعور بالحاجة إلى أسلوب أو منهج جديد للحياة ولمعالجة شئون الوجود الإنسانى، لا تقف فيه مشدوهة حيال الماضى على إطلاقه، والبشرية تأخذ بالعلم الحديث، وتدخل العصر الصناعى. وكان من شروط هذا التحديث ماورد فى هذا الكتاب عن وحدة الأرض، والترابط الاجتماعى والتعليم وفق مفهوم الديمقراطية التى يتناغم بها المجتمع. وعلى الرغم من المقدمة التى كتبتها المشرفة على هذه السلسلة، فإنها لم تجد مادة مسعفة تمكنها من التعريف بشخصية المؤلف، سوى ما هو مكتوب على غلاف الكتاب الخارجى من أنه ناظر مدرسة النحاسين بالقاهرة، أما مؤهلات محمد مختار العلمية وثقافته التى تعكس اهتماماته، فلم تستطع الكاتبة التطرق إليها لعدم توافر ببليوجرافيا للكتب والمؤلفين، فاكتفت بالحديث عن الوسط التاريخى الذى صدر فيه الكتاب. ولا شك أن ما ذكر فى المقدمة عن هذا التاريخ يمكننا أن نستخلص منه، كما نستخلص من موضوع الكتاب، ما نضع به يدنا على ملامح شخصية المؤلف التى من الواضح جدا أنه كان مطلعاً على التراث العربى وحضارة الغرب فى أبعادها الحرة التى لا تعرف التمييز بين الأفراد، وتتسم بالتسامح والتقدم، مدركا من كل منها أسباب الضعف ووسائل القوة، أو على حد تعبيره مقدار المدينة ووجه الخشونة فى بيئة البدو التى تتكون من عشائر متفرقة، ليس لها رباط وطنى. وتحت تأثير هذا الاطلاع نرى المؤلف منحازا إلى المدينة والعقل النقدى، دون انقطاع عن الأصول التراثية، فى صناعة المجتمع، وفى نظمه السياسية التى تقوم على مبدأ المواطنة، وتعنى أن الفرد عضو فى المجتمع، فى مواجهة كل المحاولات المعادية حينذاك من سلطة الاحتلال والتيارات الرجعية التى تعمل فيها على القضاء على اللغة، وطمس الهوية أو الخصوصية المحلية المناهضة لها ولكل حوافز التطور. ومما أكده المؤلف أنه لا فارق بين قبطى ومسلم، أو فقير وغنى فى حق الوطن، كذلك يعد المؤلف أن إهداء المناصب الرفيعة لمن لا يستحقها، أو ليس أهلا لها، دليل على أن الأوضاع فى إدارة الدولة غير سوية، لأنها تدوس على الحق الأصيل للكفاءة، ولمن هو أهل لها، وتخل بمبدأ العمومية والعدل. سياسة وجوهر ما يذكره مختار عن نهضة المجتمع ورقيه هو غرس القيم الوطنية فى الشخصية بالصناعات والتعليم والزراعة والمكتبات والفنون والعلوم والتجارة على أن يتم هذا كله فى ضوء المقارنة الدقيقة بالأمم الماضية والمعاصرة، الشرقية والغربية، للاستفادة مما حققته من منافع، أما الحرية فإنها عنده قمة الفضائل الخلقية التى توجب حسن معاملة الناس، وهى التى يفرضها فى العصور الحديثة الدستور والقانون الذى تتفق عليه الأمة. ويتطابق فيه القول مع الفعل، ويتخلص فيه المرء من كل العيوب النفسية كالحسد والكبرياء، ويضطلع بالدفاع عن الوطن ضد كل مايكدر صفوه، أو يجسر على الإخلال به. ومحمد مختار بهذه المواقف ابن المرحلة التاريخية التى نشأ فيها، التى بدأت بمحمد على فى أوائل القرن التاسع عشر، ومضت فى عهد إسماعيل، ثم عهد عباس حلمى الذى ألف كتابه فى عهده، إنه كما جاء فى المقدمة ضمن الكوكبة ممن سبقوه أو كانوا من المعاصرين له أو أتوا بعده، بغرض تحقيق النهضة الأخلاقية والإنسانية التى تساير النهضة الثقافية والعلمية التى بدأت معالمها فى الظهور فى الوطن الذى يختم محمد مختار كتابه بأنه لا يضارعه وطن آخر فى الجمال والاعتبار.