نقيب الأطباء يوضح سبب قرار عدم الاعتراف بشهادة «الدراسات العليا للطفولة» وإلغاءه (تفاصيل)    سعر اليورو اليوم الجمعة 7-6-2024 أمام الجنيه فى البنوك المصرية    وزير المالية: التأمين الصحي الشامل يجذب القطاع الخاص ويشجع التنافسية    وزير النقل يعقد سلسلة لقاءات على هامش اجتماع تجمع دول البريكس في روسيا    الأمم المتحدة تعتزم إدراج إسرائيل في "قائمة العار"    صباح الكورة.. تفاصيل إصابة إمام عاشور وأرقام تاريخية لمنتخب مصر.. حسم جدل الأندية المشاركة إفريقيا وبديل صلاح في ليفربول    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    9 دول إسلامية خالفت السعودية في رؤية هلال ذي الحجة    صحة الوادي الجديد تشن حملات في مركز الفرافرة وتحرر محاضر للمخالفين    رئيس بعثة الحج: انتهاء تفويج الحجاج من القاهرة إلى المدينة المنورة    السيطرة على حريق «محل أدوات منزلية» بالشرقية (تفاصيل)    إطلالة جريئة ل حلا شيحة في «زفاف جميلة عوض».. وأحمد سعد: «عاملين بلاوي» (صور)    القاهرة الإخبارية: بلينكن يسعى خلال زيارته لإسرائيل للتوصل لاتفاق تهدئة بغزة    زيلينسكي: الحرب الروسية ضد أوكرانيا تمثل نقطة تحول في تاريخ أوروبا    مبادرة كلنا واحد توجه قافلة إنسانية وطبية للبحيرة    هشام آمنة: تنفيذ 5130 مشروعا ضمن برنامج التنمية المحلية بصعيد مصر    محافظ أسوان: طرح كميات من الخراف والعجول البلدية بأسعار مناسبة بمقر الإرشاد الزراعي    التعليم العالي: إدراج 15 جامعة مصرية في تصنيف QS العالمي لعام 2025    ذا جارديان: "حزب العمال البريطانى" قد يعلن قريبا الاعتراف بدولة فلسطينية    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    تعليم البحر الأحمر تنهي استعداداتها لامتحانات الثانوية العامة    الموقع الرسمي ل نتيجة الشهادة الإعدادية محافظة القليوبية 2024 الترم الثاني (تظهر خلال ساعات)    ماكرون يرحب بزيلينسكي في قصر الإليزيه    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    واشنطن تطالب إسرائيل بالشفافية عقب غارة على مدرسة الأونروا    خالد جلال ناعيًا محمد لبيب: ترك أثرًا طيبًا    سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام    تعرف على فضل صيام التسعة أيام الأوائل من ذي الحجة    صيام العشر الأول من ذي الحجة 2024.. حكمها وفضلها والأعمال المستحبة بها    قافلة طبية مجانية بقرى النهضة وعائشة في الوادي الجديد    رئيس «الرقابة والاعتماد»: معايير الجودة تؤسس لنظام صحي تقل فيه الأخطاء الطبية    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    مرسى جميل عزيز l ملك الحروف .. و موسيقار الكلمات    خبراء عسكريون: الجمهورية الجديدة حاربت الإرهاب فكريًا وعسكريًا ونجحت فى مشروعات التنمية الشاملة    الإسكان: تم وجارٍ تنفيذ 11 مشروعًا لمياه الشرب وصرف صحى الحضر لخدمة أهالى محافظة مطروح    صباحك أوروبي.. قانون جديد في بريميرليج.. تدعيمات برشلونة.. ورسالة الخليفي    ارتفاع حجم التجارة الخارجية للصين بواقع 6.3% في أول 5 أشهر من 2024    منتخب السودان يتصدر مجموعة تصفيات كأس العالم على حساب السنغال    الأخضر بكامِ ؟.. سعر الدولار أمام الجنيه المصري في تعاملات اليوم الجمعة 7 يونيو 2024    تفشي سلالة من إنفلونزا الطيور في مزرعة دواجن خامسة بأستراليا    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    مفاجأة.. دولة عربية تعلن إجازة عيد الأضحى يومين فقط    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    رغم الفوز.. نبيل الحلفاوي ينتقد مبارة مصر وبوركينا فاسو .. ماذا قال؟    الصيادلة: الدواء المصري حتى بعد الزيادة الأرخص في العالم    ما قانونية المكالمات الهاتفية لشركات التسويق العقاري؟ خبير يجيب (فيديو)    أمين الفتوى: إعداد الزوجة للطعام فضل منها وليس واجبا    «صلاة الجمعة».. مواقيت الصلاة اليوم في محافظات مصر    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    عيد الأضحى 2024| أحكام الأضحية في 17 سؤال    ساتر لجميع جسدها.. الإفتاء توضح الزي الشرعي للمرأة أثناء الحج    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    حظ عاثر للأهلي.. إصابة ثنائي دولي في ساعات    إبراهيم حسن: الحكم تحامل على المنتخب واطمئنان اللاعبين سبب تراجع المستوى    في عيد تأسيسها الأول.. الأنبا مرقس يكرس إيبارشية القوصية لقلب يسوع الأقدس    بمكون سحري وفي دقيقة واحدة .. طريقة تنظيف الممبار استعدادًا ل عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عسل وسكر
نشر في الأهرام اليومي يوم 21 - 07 - 2018

من ربع قرن فى عمر الزمان رمينا الورد طفينا الشمع والغنوة الحلوة ملاها الدمع، وارتدت الموسيقى ثوب الحِداد لرحيل بليغ مصر.. بليغ حمدى.. رغم وصيته بأى دمعة حزن لا.. صاحب الكيان الدقيق الرقيق لكنه كان صرحًا وجبلا وشلالا وعاصفة ورعدًا. كان ناطحة رأسها فى السحاب وفى كل شباك وردة يعطر فنها الأجواء، ولحنًا يشنف غناؤه الآذان.. عاش البليغ حياة فيها النبض شغّال والذهن شغّال والرِتم شغّال وحب الوطن شغّال، والموسيقى فيض نهر ما له آول ولا آخر.. أكاديمية موسيقى وشدو وشجن وأشعار وألحان تعكس عزف
الطبيعة البِكر، وقبس من على ألسنة الطير المغرّد، وصدى لهدير زحام البشر، ورقرقات ثغاء وليد، وسلطنة نداء بائع، وأنين أم الصابرين، وهديل الحمام فى برج الحمام، ورجع صدى خطوات حاملى السلاح على أرض الميدان، وشهقات صدر جريح تشرخ الليل، وابتهالات مئذنة فجر، ودعاء فى حلقة ذِكر، وهتاف يمزق السكون عندما تصيب الكرة الجون.. و..أنساك يا سلام.. أنساك ده كلام، ده انت اللى حطيت فى كل لحن لك عسل.. وسكر!
فى عطاء بليغ حمدى لم يتقارب لحنان ولا تشابهت جملتان موسيقيتان
ثلاثة آلاف لحن عمر العبقرى التى صال فيها وجالَ مع جميع ربوع القوالب الموسيقية من أوبريت وأغنية خفيفة ونشيد دينى وأغانى وطنية وأفلام ومسرحيات ومسلسلات واللحن الأخير الخالد ل«بوابة الحلوانى» مفتاح نجاح البوابة والحلوانى.. بليغ مر على مصر كالشهاب ليروى أرضها بالغناء ويموت وحده فى الغربة بعد حياة ساخنة مولعة لدرجة الغليان، أطرافها طالتها النار ورائحتها آهات وشياط، ومشاعرها غليان فى العمق، وجمر فى الأغوار، وحرائق ما بين الجوانح، وفوران فوق السطح. كيان دقيق ورقيق ورهيف من الوهن تزقه يقع.. الكبد تعبان والقلب مثخن بجراح حب قديم، وحب مقيم، وحب فى علم الغيب، وحب متأبطًا ذراعًا ليلوح بالأخرى لحب محتمل يسير على الجانب الآخر، وحب حدوتة ملتوتة خلصت بعدما قتلها الملل، وحب رواه ليل القاهرة الصاخب حضره مأذون عابدين ليعقد قران بليغ على الشحرورة التى غنت له شمس الشموس يا صبوحة، وعاشقة وغلبانة، ويانا يانا، وزى العسل، وأمورتى الحلوة، وكل حب وأنت طيب، وجانى وطلب السماح ومع خيوط الفجر عاد المأذون بدفتره لصالون السهرة ليكتب ورقة الطلاق!!.. صاحب الكيان الدقيق الرقيق وقع انكسر عندما لم يستطع المواجهة، وكساه الحزن وحده فى برودة المهجر بعيدًا عن دفء الأم مصر.. فى الغربة كان لاجئًا إلى خارج موطنه بينما لا يخرج موطنه منه، وكل شيء وكل شخص يذكِّرهُ بمناسبة ومن دونها بأنه غريب الدار، وظل فى الغربة طويلا حيث لم يحن وقته فيها أبدًا للزفير، فكان يعيش على أطراف أصابعه وأطراف صحته وأطراف موارده، ينزع الشوك عن أصابعه، ينزع الأسى عن وجدانه، ينزع القهر عن قلبه ليداوى كل الجراح بالعزف على الأوتار ليخرج جفاف الاغتراب 34 لحنًآ تحت الاسم المستعار «ابن النيل».. وكان كسر بليغ حمدى فى الغُربة مضاعفًا فتت منه الكبد، ونحل منه العظم، مقتربًا من مولاه مناجيًا إياه فى مذكراته بقوله: «ما أنا إلاّ شوية هم على غُلب.. اشتريت الوهم زمان ودفعت فيه الكثير. جهاز الاستقبال بداخلى متوقف رافضًا إقناعى بما يلتقطه لى.. مش عاجبه أنا.. لأ.. أضغط قوى على الهمزة فى عبارة الرفض. حالة صاحية معايا من النوم.. لأ.. أى حاجة لأ؟!.. لأ.. زعلان؟!.. لأ.. طيب مالك؟!.. فيك إيه؟ مجرد رفض. رغبة عارمة فى أن أقول لأ لأ لأ وبأعلى صوتى حتى لو تحوَّل رفضى إلى آهات وأنين. أقرب الأشياء لى دمعتى. مستعد أقف أمام سبع أواجهه وأنا متماسك، لكن عندما أبقى وحدى ينزف جرحى وأبكى ولا أساوى نفخة هواء. أفظع الأشياء أن يموت إنسان داخلك. يموت جواّك صديق أو حبيب. شىء صعب أن تشيع جنازة إنسان ساكن فى قلبك. يسدل على جدران قلبك ستائر الأحزان. اتقى شر من أحسنت إليه. من تصورت أنهم أصدقائى وصل عددهم صفر. هاجمونى لأنهم رأوا أن النجاح الذى حققته أكثر مما أستحق. أنا وأنت ظلمنا الحب بإدينا. ينقصنى حبها حنانها احتواؤها.. أمى.. أسمع مواكب الأحاسيس. أنصت لدواعى الشجن. فلوت يغنى. الحب فى قلبى نار تُذيب ثلوج سيبيريا. صورتها كانت متجمعة داخلى. يمكن كان ينقصها رنين صوتها لتكتمل الصورة، فلما تلاقينا فرحتُ من الداخل وليس من الخارج. التآلف والتنافر داخلنا. نحن ضد القواعد. مجنون ومجنونة. الحب إحساس قوى. قوى. عايش أنا فى مزيكة زعلنا. مزيكة فرحنا. مزيكة دمعنا. مزيكة الغربة التى يردد صداها الناى الحزين. أستسمح ربى. أصلى له. أدعوه. سامحنى اغفر لى امنحنى الهُدى والسكينة والسلام. أشعر أنه يسمعنى. بائس جدًا جدًا من لديه إحساس. من لديه مشاعر. من أعصابه فوق الجلد.. إن بعض عِبادك أغبياء يبحثون يا ربى بعيدًا وأنت القريب قوى قوى»..
موهبة قرينة بالخصوبة غمرت البلاد بألحانها، وليس من مطرب ولا مطربة فى مصر وبلاد العرب فى عصره إلا وساهم البليغ بنصيب كبير فى تطوير صوتها وصوته، أو على الأقل وضعه فى مرحلة متطورة جسدت أحلى ما عنده وفيه.. صياد بحور النغم كان تلحينه لأم كلثوم فى حد ذاته اعترافًا من المؤسسة الموسيقية بأن بليغ قد بلغ المرتبة التى تضعه فى مصاف الكبار. أجبر ثومة فى عام 66 فى رائعته «فات الميعاد» على منافسة آلة الساكسفون التى استخدمها استخدامًا شرقيًا للمرة الأولى ليُعلن للعالم أننا شعب ورثنا الموسيقى عن الأجداد، واختار لأغنية «أنساك يا سلام» التى أكملها بعد وفاة زكريا أحمد نفس مقام الراست واستخدم فيها انتقالات مقامية عديدة أضافت للأغينة جمالا وثراءً، وقام بتلحين «حكم علينا الهوى» التى سجلتها أم كلثوم عام 73 ولم تستطع تقديمها فى حفل بسبب اشتداد المرض عليها، فكان بليغ آخر ملحن التقت ألحانه بحنجرتها، وكان لحمدى مع شادى الجبل وديع الصافى لقاءات أهداه فيها أحلى أغانيه: على رمش عيونها، ودار يا دار راحوا فين حبايب الدار، وقدم لحنجرة النقشبندى «أقول امتى» و«أيها الساهر» و«ربنا نعم المعين» و«مولاى» ليقول عنه بليغ «كان نسيجًا متفردًا فى أدائه وقدراته الصوفية، ولم أعثر على نظير له يغرى بتلحين موشحات جديدة»، وغنى له محمد رشدى عدوية، وميتى أشوفك، ويا عينى ع الولد وغيرها، وقامت معركة الأغنية الشعبية بين رشدى وحليم ليقول حليم: «إذا ما كان محمد رشدى فلاح فأنا فلاح قح لأنى مصاب بالبلهارسيا، وعندها قام بليغ بتقديم فولكلوريات حليم: أنا كل ما أقول التوبة، وعلى حسب وداد قلبى، وفازت نجاة بنصيب الأسد من ألحان بليغ فشدت له 30 لحنًا منها كل شىء راح، والطير المسافر، وروائع خالدة للأذن التى عشقت قيثارة الغناء لكن كانت فى القلب وردة!! ووصف بليغ أصالة بأنها أم كلثوم هذا الزمان ومنحها أغنيتها (حلم عميق).. وكانت لور كاش فى الزمان الأول قد غنت له رائعتها (عسل وسكر)..
بليغ الذى قالت عنه سيدة الغناء العربى أم كلثوم إنه كالنهر المتدفق فى حاجة إلى بعض السدود حتى يتوقف تدفقه الهائل.. وقال عنه موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب إنه مزيج ما بين أصالة النغم الشرقى والتجريب والتجديد فى الموسيقى المصرية.. ووصفه كامل الشناوى بأنه أمل مصر فى الموسيقى، وقال توفيق الحكيم: «لقد عبرت موسيقاه عن روح الوطنية، ونبضت بكم هائل من الشجن فى ألحانه الفولكلورية والدرامية والعاطفية»..
كانت مصر تمر بمخاض تُعيد فيه تشكيل كيانها السياسى الذى تمزق ما بين احتلال أجنبى له أذناب داخل الوطن، وحزب أغلبية نادرًا ما يصل إلى الحكم، وأحزاب أقلية كالدمى فى أيدى أسيادها، وشباب جامعة حائر تجره تارة أمواج الإخوان الغريقة وتارة دوامات اليسار الدخيلة.. فى فترة المخاض تلك أتى بليغ فى 7 أكتوبر 1931 لينشأ تحت لواء أب مستنير يشترى للابن الهاوى الصغير عودًا يلعب عليه، وسرعان ما يتحول اللعب إلى عشق، والشقاوة إلى تعبد فى محراب الموسيقى التى امتلكت عليه عقله وقلبه فيترك كلية الحقوق قبل ثلاثة أشهر فقط من التخرج فى السنة النهائية.. وكانت البداية مع برنامج الهواة الذى يُشرف عليه محمد حسن الشجاعى ليُغنى ثلاثة ألحان للملحن محمد عمر فيعتمد مطربًا، فى الوقت الذى رفضت فيه الإذاعة قيد «عبدالحليم شبانة» الذى أصبح العندليب «عبدالحليم حافظ»، وكانت بداية مشوار التلحين مع زميلة الحقوق المطربة فايدة كامل التى غنت له «ليه لأ» و«ليه فاتنى فيه» تبعتها «ماتحبنيش بالشكل ده وتغير كتير من ده وده» لفايزة أحمد.. ورغم سوء الطالع الذى طارد بليغ فى أواخر حياته إلا أن البدايات كانت لصالحه لأبعد درجات الحظ، فقد التقى فى منزل الدكتور زكى سويدان عن طريق محمد فوزى بأم كلثوم لتغنى له «حب إيه» وكانت الألحان الكلثومية وقتها مقصورة على رياض السنباطى والقصبجى وزكريا أحمد، وبدأ الفيض البليغى يكسو سيدة الغناء بألحانه المتمردة على القوالب القديمة.. بليغ الذى كانت له حكاية وراء كل لحن وأغنية، ومن حكاياته حول ذلك اللقاء الأول «حب إيه» فى عام 1960 كلمات الشاعر عبدالوهاب محمد أن بليغ بدأ تلحين الكوبليه الأول وهو جالس على الأرض، فما كان من أم كلثوم للمرة الأولى إلا أن هبطت لتجلس بجواره منتشية باللحن الوليد التى استشفت منه مرحلة جديدة فى تاريخها الغنائى فأخذت تحفزه على استكمال اللحن الذى رددته فى ديسمبر 1960 وحقق نجاحًا ساحقًا، وكانت أغنية «أنساك» من كلمات الشاعر الكبير مأمون الشناوى فى حوزة الموسيقار محمد فوزى يدخرها كالكنز ليُحقق بها أمنية حياته بالتلحين لثومة، وأثناء مغادرته المكان للقاء خارجى مهم تاركًا بليغ مع الكلمات التى استولت عليه لتتسلل إلى أوتار عوده مرغمًا ليعود فوزى ليجد بليغ قد انتهى من اللحن كاملا فقام الأخلاقى راعى الفنون والطرب بالاتصال بكوكب الشرق قائلا «بليغ قام بتلحين الأغنية أفضل منى».. وقيل إن مقدمة «بعيد عنك، والحب كله، وسيرة الحب، وأنساك» كانت رسائل غير مباشرة من بليغ لوردة لتعلق صاحبة البديهة الحاضرة والنكتة اللاذعة أم كلثوم عند علمها بالأمر «إنت بتشتغلنى كوبرى مع البنت اللى بتحبها»، ومن الحكايات أن بليغ أشرف على لحن أغنية وردة «لولا الملامة» لعبدالوهاب حيث ظهرت لمساته الموسيقية فيها واضحة، كما استكمل أغنية «كلمة عتاب» من ألحان فريد الأطرش لوردة لوفاة الأطرش قبل استكمال اللحن، وظلت أغنية «مكسوفة» لشادية من ألحانه سببًا لتأصيل ملمح اجتماعى أخلاقى فى وصف الفتاة المصرية سليلة العائلات المحترمة فهى «مكسوفة ومختشية وعينها لا ترفعها عن الأرض ووشها يروح بلون الورد لمجرد إطراء عابر».
وفى حب مصر والتماهى فى عشق الوطن كتب ولحن وغنى بليغ فكانت «عدى النهار» بصوته التى قدمها بعد حرب 67 رمزًا لمرحلة النكسة والخروج من أسر أحزانها، كما أصبحت «على الربابة بغنى» لوردة رمزًا لنصر أكتوبر ومرحلة العبور الكبير، إلى جانب «البندقية اتكلمت» و«ولو عديت» و«عبرنا الهزيمة» و«فدائى» و«بسم الله» و«عاش اللى قال» و«يا حبيبتى يا مصر»، وفى سيرة بليغ أنه أثناء حرب أكتوبر سارع مع زوجته وردة لمبنى الإذاعة والتليفزيون ليُشارك بألحانه فى الحدث الوطنى العظيم فلم يسمح لهما بالدخول إلا بعدما كتب على نفسه تعهدًا بتحمل أجور جميع الموسيقيين المصاحبين لعدم وجود ميزانية لتسجيل أغانى النصر لنغنى معه رغم صلف الممنوعات «على الربابة بغنى» و«بسم الله».. تلك السلبية التى صاحبت لحظات العبور نفسها لاختراق خط بارليف حيث لم تصاحب قواتنا عدسة يتيمة واحدة تسجل أهم انتصار فى تاريخنا الحديث!!..
بليغ.. سيد درويش العصر الحديث، رافض لقب الأفوكاتو، خريج معهد الموسيقى العربية أيام كان اسمه معهد فؤاد الأول للموسيقى، تلميذ درويش الحريرى أستاذه فى علم الموشحات، مكتشف عفاف راضى وعلى الحجار وملحن أغنية «مستنياك» لعزيزة جلال التى باعت منها شركة «عالم الفن» أكثر من مليونى نسخة «مستنياك تعبت من الأشواق.. مستنياك يا روحى بشوق كل العشاق».. وكانت آخر ألحانه أغنية «عندى كلام» للشاعر السعودى عبدالرحمن الحوتان التى غنتها له ميادة الحناوى مطربة «أنا بعشقك أنا كلى لك» التى كتبها فيها ولها بليغ.. الموسيقار الذى عبّر صديقه الصدوق العازف الشهير ميشيل المصرى قبل وفاته فى أول هذا الشهر بأنه حزين للغاية لعدم اكتمال مسلسل «مداح القمر» الذى يروى سيرة بليغ حمدى، وكان يتمنى أن يختم حياته بالعزف فيه فقد كان بليغ رفيق الدرب والمكان واللحن.. ومن بعد وداع المصرى ذهبت أجمع تفاصيل لمسات الفرشاة فى لوحة بليغ حمدى، ألملم النغمات والأصداء والذكريات ليقود أوركسترا خطاى شقيقه د. مرسى سعد الدين عندما التقيته مرات فى حضرة الكاتب الكبير يوسف السباعى الذى شغل منصب وزير الثقافة ويقوم بتحفيز الشقيق للبوح حول سيرة بليغ فقال الكثير والكثير: «كان يكره الوحدة ويحب اللمّة لكن ظروفه الأليمة فرضت عليه الوحدة خارج مصر حبيبته وسكَن فؤاده وروحه.. مصر اختزنها فى وجدانه.. كان حلمه موسيقى مختلفة خارج نطاق المسموع والمتاح والمتداول والمتعاطى بحكم العادة والإقامة المزمنة فى قوقعة الأذن.. لم تكن موسيقى قادمة من بلاد الفرنجة وإنما موسيقى من الناس للناس.. استقى مزيكته من مفردات إيقاع موسيقى الناس. من زغرودة الأفراح وعديد الأحزان، وحتى إيقاع الردح البلدى أخذ منه: حب إيه اللى انت جاى تقول عليه!.. بليغ كان فى طفولته يحفظ النغمة ويعيدها. كان لسانه ألدغ.. عايز تطلع إيه يا بليغ؟.. عايز أطلع مذيكاتى. كان ينطق الزين بالذال. طلعنا فى إطار موسيقى. كانت الوالدة عازفة بيانو ماهرة أستاذها مع شقيقاتها الشيخ صبح. طول النهار فى بيتنا مذيكة. على أيامنا كانت مصر كلها مذيكة، حتى الباعة السريحة لكل واحد منهم نداء مميز ممتد كأنه المواّل. بليغ كان غاوى فولكلور يحب يشرب يستقى من تراث ريف محافظات مصر بطول خريطة بحرى وقبلى، وكان حلمه تكوين فرقة عربية تقدم فولكلور الموسيقى العربية فى جميع أنحاء العالم العربى.. عندك غنوة شادية كأنك بتسمعى واحدة سودانية وهى تغنى «يا حبيبى قل لى تانى».. كان فى بيتنا أكثر من دادة. دادة بندقة ودادة زينب ودادة ليلة وأصل اسمها ليلى. كانوا يجمعوننا أطفالا ليغنوا لنا أغانى فولكلور البحاروة والصعايدة مثل يا خوفى على أمك لتدوّر عليك، ويا نخلتين فى العلالى، وقولوا لأبوها إن كان جعان يتعشى.. تغلغلت بداخلنا تلك الألحان وكان صوتى حلو أنا وبليغ والوالدة كمان كان صوتها كما الكروان، وأبويا ذات نفسه كان يغنى لصالح عبدالحى وسيد درويش.. رجالة زمان كانوا رجالة. أبويا مات صغير لكن صورته فى ذهنى راجل كبير وقور محترم ومعلم بالمعنى الحقيقي.. هناك فرق كبير ما بين المعلم والمدرس. كانت له فلسفته الخاصة فى تربية أولاده بترك الحرية لهم داخل إطار التقاليد. ترك لنا مساحة اختيار القرار مع رقابة شفافة خفيفة واعية من على بُعد.. أبدًا لم تزعجه اهتمامات بليغ الموسيقية فقد فتحنا عيوننا على انسياب الغِناء من بوق الفونوغراف وكانت أودة المسافرين مشغولة وكاملة العدد بأصدقاء أبى من أهل الطرب.. والدى عبدالحميد حمدى كان أستاذ «فيزياء» سافر فى بعثة لانجلترا وكان خريج المعلمين العليا وحصل على جائزة الدولة عن مؤلفه «الحسن بن الهيثم» وكان المشرف عليه الدكتور العالِم مشرفة.. كنا فى البيت خمس أشقاء وشقيقات: أنا وبليغ وحسام وصفية وقسمة.. كلهم راحوا.. أول واحد راح كان أصغرنا حسام ضابط مهندس فى الفنية العسكرية سافر يعمل الدكتوراه فى تشيكوسلوفاكيا ومات هناك، ومن بعده بليغ وبعدهما راحت صفية وآخر واحدة ودعتها كانت قسمة، وبعد كل أشقاء الرحم راح ابنى حمدى.. الوالد توفى فى 1946 ليزيد من تعلق بليغ بوالدتى، وأنا بعدت عنه وكان لم يزل فى سن 12 سنة لغاية ما بلغ ال24 يعنى دستة سنين طويلة عملت فيها كملحق ثقافى بلندن، وعند رجوعى عام 56 قررت تعويض بليغ عن فترة غيابى عنه فبقيت أشوفه كل يوم.. أرسلت لى الوالدة وأنا فى الخارج تقول إن بليغ التحق بمعهد الموسيقى وبدأ يدرب صوته ويتعلم النوتة عند مدام رطل.. كانت خطاباته لى تحمل طلب كتب عن الموسيقى، وقام بتعليم نفسه الإنجليزية السليمة ليجيد قراءتها، وبعد وفاة أمى تولت صفية رعايته بكل ذرّة تفانى لآخر دقيقة..
ولد بليغ فى بيتنا بشبرا فى 7 أكتوبر 1931 وكان اسمه بيت الشركة.. نفس البيت الذى ولد فيه صلاح جاهين.. قريبنا.. بهيجة أخت صلاح متزوجة أحمد فخرى شقيق زوجتى عنايات التى أناديها ب«عنونه» مديرة الانجلش سكول لسنوات طويلة، وصلاح فى نفس الوقت زوجته الأولى سوسن والدة بهاء تبقى بنت أخت عنونة زوجتى.. صلاح كان النكتة عنده حاضرة وأذكر أنه كان يحب القمصان الغامقة ويقول علشان لمّا تتوسخ ماتبانشى.. فن الكاريكاتير انتهى من بعد صلاح.. هناك فرق فى أن تكون عدوًا للثورة وفى ألاّ تكون معها، وبليغ لم يكن عدوًا لها، وعلشان كده عمره ما قام بتلحين أى حاجة لجاهين رغم القرابة والصداقة ولعب العيال على نفس البسطة فى بيتنا.. عمرى ما سألت بليغ فى هذه الجزئية لكنى كنت مدركها بمشاعرى.. صلاح كتب للثورة بإيمان واقتناع ولأجل هذا أصابه الشرخ الكبير وسقط فى بحور الاكتئاب الذى أدى به إلى الأغوار البعيدة.. بليغ كان يغنى وهو صاحى وهو ماشى وهو يمد إيده للطبق وهو فى الحمام.. كان غاوى التجديد والغريب، وفى الوقت الذى اعتاد فيه الملحنون أن يقفلوا الغنوة بأسلوب التبات والنبات وخلفوا صبيان وبنات، كان هو على العكس يجعل القفلة افتتاحية كالكثير من أغانيه مثل «أى دمعة حزن لا».. أنا كنت بالنسبة لبليغ فى أول الأمر آبيه سعد على اسم سعد زغلول، وصفية أختى تيمنًا باسم صفية زغلول، ولما كبر بليغ بقى ينادينى مرسى فقط.. فى مرة قال لى تعالى يا مرسى اخطب لى سامية جمال.. رحت معاه.. كانت ساكنة فى الزمالك على النيل فى عمارة ليبون.. خطبتها له لكن مااعرفش ليه الجوازة لم تتم، وعمرى ما سألته رغم الحب الكبير اللى شفته بعينى بينهما سامية التى فسخت الخطوبة رغم إلحاح بليغ وطلبه من فريد الأطرش التدخل مما جعلها تقول له حب إيه اللى انت جاى تقول عليه فاقتنص الجملة وصنع منها لحنًا حقق له النجاح مع كوكب الشرق وبليغ زوجته الأولى «آمال طحيمر» عقد قرانه عليها فى 1963 حسناء من الاسكندرية كانت تعيش مع خالتها فى القاهرة وكانت جارة لبليغ.. صحّاها فى وسط الليل وطلبها للزواج، وفى نفس الوقت صحّى مأذون عابدين ليعقد قرانهما عند عبدالرحمن الخميسى، وطلقها بعد شهرين، مسكينة آمال ماتت صغيرة بالمرض الخبيث وحزن عليها بشدة ليعيش بعدها فى قصة حب عميقة كان يحكى لى تفاصيلها البديعة مع أديبة عربية شهيرة تابع حكايتهما عن قرب المذيع وجدى الحكيم.. عفاف راضى التى غنت له ردوا السلام، وبتسأل يا حبيبى ولمين يا قمر، ومصر هى أمى كانت بينهما زمالة أستاذ وصوت جميل، وظلت عفاف مخلصة لبليغ من الأعماق، وقدرت من جانبى مدى إخلاصها الذى ظهر عندما أقاموا مزادًا خيريًا قدمنا فيه كأسرة بليغ آلة عود له فاشترته عفاف بمبلغ باهظ تقديرًا لفنه وأستاذيته، وكانت هناك رغبة من جانب بليغ للزواج من بنت محمد عبدالوهاب لكنه قوبل بالرفض من والدها، وكانت زوجة بليغ الثانية هى المطربة وردة وقد رأيته مرتين يبكى بحرقة شديدة عندما أُجهضت فكانت أمنيته أن يكون أبًا.. ومن مشروعات بليغ فى الارتباط خطوبته لنجوى فؤاد، ولم يكن مجرد مشروع بل زواجًا من آمال طلعت، وبليغ كان مرتبطًا بالعيلة ارتباطًا وثيقًا وغير طبيعى.. فى كل يوم جمعة كان لزامًا علينا كلنا إلغاء أى ارتباط لتناول الغداء عند أمى التى كانت تعرف مزاجنا فى الأكل أنا وبليغ. نحب الكفتة بالدمعة وماكانشى على أيامها حاجة اسمها الصوص والكاتشب، وتعمل لنا بجانبها الفراخ والمكرونة المقصوصة، وكانت العيلة كلها ترضخ لمزاجنا أنا وبليغ المغرم بالعسل والطحينة، ويأكل الجبنة البيضاء بالعسل الأسود.. كان يعشق أمه أكثر من أى مخلوق فى الدنيا.. كان قسمه الغالى الذى لا يتراجع عنه بحال من الأحوال هو «وحياة ماما عيشة».. أقسم لها أن يعيش حياته بدون مغامرات وأن يتفرغ لفنه بعدما أصبحنا نقول له إنه «بيتجوز على روحه».. فى السنين الأخيرة كانت الوالدة تقيم مع صفية بشقة الزمالك على بُعد خطوات من مكتب بليغ، وكان من عادته أن يفطر معها كل يوم.. كانت تحفظ معظم أغانى الفولكلور وتصحح له كلماتها.. عندما مرضت وأنا مستشار ثقافى فى ألمانيا أحضرتها معى للعلاج لمدة شهر، ترك بليغ كل شغله وجاء ليقيم تحت أقدامها طوال الشهر، ولما رجعت مصر أخذ لها سويت فى الأوبروى وقعد بجانبها طوال فترة النقاهة، وكان أول مشوار له بعد البراءة زيارة قبرها، وعندما أراد الزواج بوردة أخذها وكتب الكتاب فى حجرة نومها..
ولأنه كان فنانًا غير عادى كانت له شطحات منها سهوه ونسيانه وأفتكر يوم ما كان مفروض خطوبته لوردة نسى وسألوا عليه وجدوه مسافر بيروت، ومثلها الذى جرى عندما سافر أيضًا لبيروت بينما أم كلثوم فى انتظاره لموعد بروفة بعيد عنك حياتى عذاب، بل أكثر من كل هذا أنه نسى موعده مع السادات ذات نفسه بعدما أبدى إعجابه بلحن يا حبيبتى يا مصر لشادية واستدعاه فانتهز بليغ فرصة اللقاء ليطلب مكانا لمسرح غنائى متكامل، ووافق السادات وحدد موعدًا يكون فيه قد ذلل له العقبات، وفى الموعد المحدد لم يحضر بليغ موعده مع الرئيس.. نسى.. ولما افتكر كان فات الميعاد.. وأنا لما رحت أقعد عنده يومين من باب التغيير كنت أقوم فى وسط الليل اسأل عنه سامى سكرتيره يقول لى الأستاذ أخذ العربية الساعة الثالثة وسافر اسكندرية.. كان من عشاق بحر اسكندرية وكانت له شقة فى ستانلى دفع فيها خلو رِجل لليلى مراد، والكثيرون لا يعرفون إن بليغ حمدى له تجربة فى التمثيل سنة 77 عندما قام ببطولة مسلسل درامى وطنى من ثلاثين حلقة كتبه وجيه الشربتلى اسمه «حبى أنا» بمشاركة كل من عباس فارس وسهير البابلى وسيد زيان ومحمد نوح، وكان المسلسل مقدمة لعلاقة بليغ بحرب أكتوبر حيث انطلقت مع نبأ العبور ألحانه (أنا ع الربابة بغنى) لوردة، و(أم الصابرين) لشادية، و(عاش اللى قال) لحليم.. وأذكر لميمى صدقى ابنة زينب صدقى والتى تعيش فى لبنان قولها لى أخوك بليغ بيطول رقبتى لما يجىء لنا فى بيروت لأن أى أمير يعزمه يقوم بليغ تانى يوم يعمل له عزومة على نفس المستوى ويمكن أحسن.. كان مرادنا نعمل مكتب بليغ متحف فى الزمالك فى شارع بهجت على، وعرضنا الفلوس لكن صاحب البيت رفض ورفع قضية وكسبها وحوَّل المكتب دكان أدوات صحية.. لى حكاية مع السيدة جيهان السادات فى رحلة للشرق الأقصى وكنا فى اليابان، طلبت منى بدماثتها المعهودة أن أقول لبليغ يلحن لابنة الشيخ الحصرى ياسمين الخيام الاسم الذى أطلقه عليها رشاد رشدى لكن بليغ أحرجنى قائلا أنا لا ألحن بالأمر.. بليغ كان فاتح بيته وجيبه للكثيرين وكان على الدوام معرضا للنصب عليه، حتى سكرتيره محمود بعد وفاة بليغ لقينا عليه فلوس كتير للضرائب مع إنه كان شخصا ملتزما ويعطيها أولا بأول لمحمود فيحطها فى جيبه ويشترى بها تاكسيات ومات محمود دون أن يتمتع بها.. حتى فى الغربة نصبوا على بليغ وأخذوا منه فلوسه بحجة افتتاح مطعم وأكلوها عليه...
فى غربته.. خمس سنين عذاب جابت له المرض.. كل سنة أسافر له مرتين وأقعد معاه مدة.. كان يعيش بفلوس حق الأداء العلنى قام بليغ فى باريس بتلحين 34 أغنية سجلها هناك تحت الاسم المستعار «ابن النيل» فى جمعية المؤلفين والملحنين، وكانت الجمعية تصرف له حق الأداء العلنى إلى جانب حقه فى عدة ألحان منها أغنية «وحشتنى مصر» التى أرسلها إلى أصدقائه بصوته، وكانت إقامته فى باريس بشقة صغيرة بإيجار متواضع، وعندما غادر المعهد الطبى «جوسنانا روس» فى انتظار موعد الحقنة التالية أقام فى شقة صديق كان يعمل يومًا سكرتيرًا له، وفى المرة التى انتهت فيها نقوده وبقى على الحديدة فى الغربة لفترة اضطر لأن يقوم بتعليم طفل فى التاسعة العزف على البيانو مقابل 20 ألف فرنك، واسم الطفل أحمد يوسف الصبان نجل أحد رجال الأعمال السعوديين ويسكن مع أسرته بإحدى ضواحى باريس، حيث كان على بليغ الذهاب إليه يوميًا بالمترو عشرات المحطات، وفى سنوات الغربة المريرة القاحلة عرضت عليه أميرة مغربية الإقامة بالدار البيضاء فى استوديو مطل على البحر يصاحبه طباخ مقيم لا يتكلف فيه أى مصروفات، فذهب بليغ وقضى يومين لا غير ليترك ملابسه وحقيبة صغيرة للتمويه وعاد لباريس ليقيم فى بنسيون متواضع بالحى اللاتينى، ولم يعد بعدها للدار البيضاء ولا اعتذر للأميرة الفاضلة، وعرض عليه ملك المغرب والرئيس القذافى باسبورات دبلوماسية لكن بليغ رفض أى جنسية غير المصرية، ورد شاكرًا قائلا (أرجع مصر الأول وأبقى أزوركم بعدها)... ورفض أن تتحمل الدولة مليمًا واحدًا من مصاريف علاجه عندما طلب منه صلاح عرام نقيب الموسيقيين التقدم بطلب لمجلس الوزراء، وفى موعد نظر قضيته فى محكمة النقض رحت أجيبه من باريس، وكانت شركة إير فرانس مضربة، فأخذنا طائرة الخطوط الإنجليزية للندن ومنها للقاهرة، وكان مفروض يبات ليلة نظر القضية فى القسم، وقتها رفض وزير الداخلية شيخ العرب عبدالحليم موسى وقال بليغ يروح ينام فى بيتهم وييجى الصبح، ولأول مرة وكيل النيابة يقف يطالب ببراءة المتهم.. يقول لابد من البراءة، حيث لا توجد قضية من الأساس».. وتنتهى ذكريات الشقيق الدكتور مرسى سعد الدين لتحضرنى الذكرى المتعلقة بقضية حادث انتحار الفنانة المغربية الصاعدة سميرة مليان التى اتهم فيها بليغ لوقوعها من شرفة منزله الذى كان بمثابة ملتقى سهرات أهل الفن رغم تركه ليلتها لمدعويه وذهابه للنوم، وقد تمت تبرئة بليغ لاحقًا من هذه القضية عام 1989 بعدما أصابته الكثير من السهام السامة.. استرعانى يومها الحادث فانبريت كعادتى أتخيل ما حدث بأدق تفاصيل الخيال الواقعى، حتى الحوار نسجته كما لو قاله الضيف الكبير المنتشى الذى تخيلت وجوده لأصيغ كل ذلك فى قصة قصيرة بعنوان «هو وهى» فى الأهرام، وإذا بمحامى بليغ حمدى الذى صدّق خيالى يطلب استدعائى للشهادة كأحد حضور الواقعة السوداء على الطبيعة، فاكتفيت بالتوضيح بأدب عن مفهوم الأدب، والامتنان لقلمى على صدق أجهزة استشعاره عن بُعد..
قبل رحيله بأسبوع كان يخفى عن الناس.. كل الناس.. أن طبيبه قال له: كبدك يا مسيو بليغ خلاص.. عاد بليغ يسأله بعضًا من التفصيلات ليتكئ الأمل على إحداها فجاءته نفس الإجابة القاطعة.. خلاص.. خلاص.. خرج بليغ فى سبتمبر 93 ليجلس على مقعد مقهى الفوكيت بالشانزليزيه ليقول لمن يلقاه: أنا أقوى رجل فى الدنيا.. أنا وحدى من له علم بموعد نهايته.. بعدها قام بليغ ليدخل محلا للملابس واشترى كسوة الشتاء.. نوع من السخرية السوداء.. التحدى لإثبات الوجود المنعدم.. الإيمان بزرع فسيلة حتى ولو فى نهاية العمر.. بليغ قبل ما يموت مات.. صدرت شهادة وفاته يوم ما غادر مصر مقهورًا إلى باريس.. لا برج إيفل ولا ساعة لندن ولا متحف الشمع ولا أنغام رقصة الكان كان ولا الشانزليزيه ولا روائع اللوفر عوضوه عن سيدنا الحسين والغورية والموسكى ونداء بائع الخيار اللوبيا.. وكانت شمس الغربة مختفية متوارية وراء غيمات السحاب لا يعنيها ولا يخطر على بالها أن بليغ مصر كان صابح ماشى!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.