ربما يعود تقسيم الثقافة إلى ثقافة أدبية، وثقافة علمية إلى مفكر أمريكى يدعى (شارل سنو) الذى ميز بين الثقافتين فى كتابه «ثقافتان والثورة العلمية 1959» وبعد ذلك بسنوات آثار عالم فيزياء أمريكى يدعى (آلان سوكال)1996 وأوضح الفرق بين الثقافة الأدبية والثقافة العلمية مما دعا إلى ابتكار ما يسمى بالعلوم الإنسانية والاجتماعية كجسر يربط بين الثقافتين، واتضح خلال هذه الدراسات أن أصحاب الثقافة العلمية قد يمتلكون إلماماً واسعاً بالآداب والفنون بينما يبقى أصحاب الثقافة الأدبية فى دائرتها قليلى الخبرة فى المجال العلمى، ونشطت الدراسات حول ماهية الثقافات وتوارت كلمة الحضارات وفى كتابه الذى أثار ضجة وعنوانه (صدام الحضارات) غلبت كلمة الثقافة وكأن الأمر بات صراع ثقافات بالرغم من عنوانه صراع الحضارات ومؤلفه صموئيل هانتينجتون (1996) فهل يمكن لنا أن نحدد ما هى الثقافة؟ تراثنا العربى يعرفها بأنها الإلمام من كل علم بطرف، تعريف تناسب مع المرحلة التاريخية التى نشأت فيها الإمبراطورية العربية، أما فى عالمنا الحديث فقد خاض علماؤنا فى هذا المجال، طه حسين فى مستقبل الثقافة فى مصر يرى أن الثقافة هى الانفتاح على علوم الإنسانية كافة وبخاصة تعلم اللغات، وذلك ينطلق من اتقان اللغة العربية وتراث ثقافتها، واستأذنا الأديب الوزير جابر عصفور وهو امتداد لفكر طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم فى كثير من نواحيه فهو يرى الثقافة فى تحرير العقل، ومؤلفاته كنز أدبى وحضارى أثرى الحياة العربية الثقافية ولا يزال يتدفق فى فكره حيوية وسعياً لنهضة فكرية عربية، وكأن الثقافة العربية لم تفقد توهجها وإشعاعها على امتداد القرن العشرين بالعقول المستنيرة فى الشرق والمغرب العربى، وكأنها معركة مصير بالنسبة للعقل العربى، ولكنها ظلت كلها محاولات شخصية لم تخلق تياراً يحرر العقل ولم تنجح فى تغيير مناهج التعليم كما لم تنجح فى هز وجدان الأمة. وقد سبق وأدرك برؤية ثاقبة أهمية الثقافة الوالى الأمى محمد على وبادر بإرسال بعثات إلى أوروبا، عاد منها الطهطاوى وعلى مبارك وحملوا لواء نشر الثقافة، وما أعمق كلمة الطهطاوى عن الفرنسيين ما معناه أنهم قوم مثقفون متحضرون يعشقون النظام والجمال لكن يا خسارة أنهم ليسوا بمسلمين، إنها عبارة تعنى الكثير وتدعو بنى أمته إلى نهضة عقلية ولا يكتفون بالنهضة الدينية، فالثقافة كما حددها الفيلسوف الفرنسى المعاصر (ريمى براح) هى العلوم التى ينبغى أن نتعلمها ولا نملك أى حق فى تجاهلها، وذلك كقانون ليكون الإنسان مثقفاً, فليس من حق أى إنسان أن يرضى بأن يظل جاهلاً وأما قول الوالى سعيد بأن حكم أغلبية جاهلة أمية أسهل بكثير من حكم مثقفين مستنيرين، هذا القول جريمة إنسانية بكل المقاييس، والتخويف من العلم والتحصن بالعلوم الدينية وحدها جريمة أخرى فالدين لا يخشى العلم بل هو منارة له، والعلم حصن للدين حتى لا تسود الأساطير والخرافات وعصر حكم رجال الدين شرقاً أو غرباً صنع مأساة للإنسانية فى كل مكان، فالمثقف الواعى أحرص على دينه من الجاهل الأمى، وحاجة الإنسان إلى التنوير والتثقيف لا تقل عن حاجته للخبز. وبنظرة إنسانية متجردة من الأنانية تستطيع أن نكتشف ظلم نظم التعليم والعمل على نشر الثقافة فى عالمنا العربى، فهى لا تعطى للمستقبل رجالاً ونساءً تفكر، يتضامنون مع سائر الأمم لبناء العدل والسلام وعالم أفضل. لقد كان أهل الصين فى العصور الماضية يحبسون الأقدام فى أحذية ضيقة حتى لا تكبر أو تتضخم، فالجمال عندهم فى تلك العصور أن تظل الأقدام صغيرة الحجم، ومع الفارق فى التشبيه، أخشى أن يكون التعليم فى بلدان كثيرة هو حبس العقل بقيود دينية أو اجتماعية خوفاً من نموه ونضجه. إن من العار على الإنسانية كافة أن تصل بعض الشعوب إلى قلب الفضاء والكواكب وتسيطر على قوانين الطبيعة، بينما تعيش شعوب أخرى فى خرافات لا تمت للحقيقة بصلة، ولا تنتمى إلى الإيمان الصحيح والسليم، فكما أن الأديان طريق إلى الله الحق المطلق، فالثقافة والعلوم طريق إلى الله، وأن كان الإيمان يمدنا بطاقة روحية رائعة قوية فأن الثقافة تمد العقول بطاقة اكتشاف جمال الخالق وعظمة الكون وبهاء قوانين الطبيعة، وأتجاسر بالقول أن الثقافة العربية مازالت مكبلة بقيود عصور الجهل والخوف من العلم، ومنذ سقوط العقل العربى فى الجمود والصمت ولم ينهض أحد من مفكرينا لدراسة أسباب هذا العقم الذى أصاب العقل العربى قروناً طويلة ومتى يستيقظ؟ ليسهم فى بناء ثقافة إنسانية وحضارية شاملة، والاكتفاء بما نملك من تراث الماضى انطوت ثقافتنا العربية التى كانت يوماً نبعاً من ينابيع العلوم ومصدر إلهام للإبداع والفنون، وأضحت اليوم منزوية تجتر ماضيها دون أن تلحق بركب الحضارة الحديثة التى توشك أن تلد حضارة جديدة هى ما بعد الحداثة، تعيد صياغة عقل الإنسان كما تعيد صياغة منهج الحياة، فلا أقل من صرخة تنادى بفك الأغلال عن العقل العربى، وبإعادة بناء الإنسان العربى بناء إنسانيا شاملا وبإسقاط ثقافة الجهل والخوف وعبادة الماضى، فهل من مفكرين عرب شرقاً وغرباً يأخذون بيد العقل العربى لينطلق إلى رحاب ثقافة مسكونية تسهم فى بناء المستقبل. لمزيد من مقالات ◀ الأنبا د. يوحنا قلته