يقول الكاتب والخبير العالمى الراحل الدكتور إبراهيم الفقي:هناك ما يُعْرَفُ بالسّاعة النفسية( أو الوقت النفسي)، وهى تستطيع أن تنتقل بك إلى الماضى لتعرض عليك أحداثاً أو تجارب تعرَّضت لها، أو إلى المستقبل لتعرض عليك أحداثاً لم تقع بعد. وهذا الرأى يطرح جملة من التساؤلات، لعل أهمها: كيف نوظف الساعة النفسية؟، وما تأثير استحضار الزمن، سواء أكان ماضيا أم حاضرا؟، وهل هناك ساعة نفسيَّة جماعية، كأن تكون الساعة النفسية عَرِبيَّةً مثلا، أى ذات طابع قومي؟. بدايةً، علينا أن نُقر أن الوقت النفسى بالنسبة للعرب جميعهم، فرادى وجماعات وشعوب ودول، هو انتقال غير ممنهج إلى الماضي، حيث إن هذا الأخير يَطَال كل جوانب حياتنا، ويحكمنا الأموات، أكثر من ذلك الحضور المطلوب للأحياء، وهو بالطبع فى جانبه السَّوْدَوِى المُظْلم أقرب منه إلى المحطات النورانية، التى يقف لديها البعض بهدف تبرير عودتنا واستحضارنا وتعلقنا وشوقنا إلى الماضى ما يعنى أننا نواجه أزمة حقيقية فى حاضرنا، لا يُسأل عنها أهل الماضى سواء أكان زمنهم مؤسسا على الحقائق والمعلومات أم على الخرافات والأساطير، او حتى على الجمع بينهما، وما بقى بعد ذلك من دعوات فردية، أو ذات صلة بالعمل المؤسساتى لدول عربية تحاول زرع الأمل، من خلال استحضارها أحداث المستقبل وهو فى الغالب الأعم غير مؤسس، ولا يُّعَوَّل عليه كثيرا، لأن الزمن الحاضر مناقض له تماما، إذ كيف لنا أن نتوقع تطوراً وعدلاً فى المستقبل، ونحن نُوسِّعُ اليوم مساحة التخلف والظلم. على خلفيّة كل هذا، علينا التحرك فردياًّ وجماعياًّ، شعبياًّ وحكومياًّ من أجل توظيف الأحداث والتجارب، حاضرها ومستقبلها، من أجل أن تكون الساعة النّفسية العربية مُحَقَّقة ومُنْجِزَة لأهداف مشتركة، مع إدراكنا التام أننا نتحدث عن غائِبِيْن، الماضى الذى لن يعود أبداً، والمستقبل الذى قد لا يأتى حسب برامجنا وخططنا البشرية المدروسة.. المهم هنا أن التحرك نحو الساعة النفسية الزمنية الخاصة بالأنا الجمعى يكون بمعنى الاستحضار وليس الانتقال، أى نأخذ منها ما يجعلنا نسترشد بالماضي، خاصة فى جانبه المعرفي، ونسعى للمستقبل على اعتبار أنه نتيجة منطقية للحاضر، وليس وُعُوداً كاذبة لنا ولأجيالٍ لم تأت بعد، أى أنها لا تزال فى عالم الغيب، ومسئولة عن صنع حياتها وصياغة تاريخها، وقد يكون استحضانا للمستقبل عبئا عليها فى حاضرها، وربما يكرر بعضها تجاربنا الدموية الراهنة، فتدخل فى خصومات مع الماضي، الذى هو صناعتنا اليوم، تماما مثلما ندخل نحن اليوم فى صراع شرس مع من سبقونا. من ناحية أخرى، فإن المرء كما يقول إبراهيم الفقى يستمد من الماضى والمستقبل، وهما لَيْسَا مَوْجُودَيْن فى اللحظة الآنية أحاسيس سلبيَّة تؤثر على حاضره سلبيا، فاللحظة الآنية نقيَّة جداّ، ويلوثها الفرد بتفكيره فى تجارب الماضى السلبية أو مخاوف المستقبل..، هنا يأتى السؤال التالي: كيف لنا أن نعتبر اللحظة الراهنة نقية رغم أنها تكون أحيانا حاملة لمآس وأحزان، ومليئة بالأوجاع والمصائب؟.. ربما يمكن اعتبارها نقيَّةً لسببين، الأول: الركون والاستناد إلى المجتمع، حتى لو استعان المصاب بفرد واحد، والثاني: أنه بمقدورنا التعايش معها إذا تعلقت بمسائل وجودية مثل: الموت، والأمراض المزمنة، وتغير العواطف.. إلخ، أو تغييرها إذا كانت متعلقة بإرادتنا، وفى كلّ الحالات فإن ما يتحقق من مصير الفرد فى رحلة الحياة، هو جزء من حاضر أدبر، أو حاضر يتحقق آنياً وما أقصره أو حاضرا سيتحقق فى المستقبل ليغدو ماضيا بعد ذلك. لذلك ولغيره، يمكن القول: إن العرب فى حاضرهم، مهما تكن الأزمات التى يعيشونها، يملكون زمناً يحمل من النقاء ما يجعلهم أقدر على الصمود والبقاء، ويتجلى ذلك فى عدد من المنجزات ماثلة أمام أعيننا، صحيح أنها تتحقق بصعوبة وبتكلفة باهظة، خاصة بالنسبة للأفراد والعائلات، ولكنها فى المحصلة النهائية تصنع الأنا الجمعى بمعناه القومى فى ظل صراع أممى من أجل البقاء، فإذا أضيف لذلك تراكم التجارب الإيجابية، والتخلِّى عن مخزون الأحداث والتجارب السلبية، فإننا سنتمكَّن من تغيير واقعنا، ولنا فى تاريخنا المعاصر ما يغنينا عن استحضار سلبيات الماضي، أو تضخيم المخاوف من المستقبل، من ذلك انتصار الثورات العربية، وهى بديل عن ظلم المستعمرين وظلامهم، وقيام مؤسسات عربية جامعة كثيرة، أهمها: جامعة الدول العربية بدل تفرق أصواتنا فى المحافل الدولية، وتجمعنا وانتصارنا فى حرب أكتوبر بدل ترديد هزيمة 1967.. إلخ. إن السَّاعة النَّفسية العربية من خلال الأحاسيس والمشاعر القومية الجارفة، تنتقل بنا اليوم فى رحلة الحياة، وهى تفتح ملفات وتطوى أخرى من خلال الإبعاد والنسيان والتجاهل، وفى ذلك نحن جماعات وشعوب متفرقة، لذلك بأسنا بيننا شديد، ولكى نخرج من هذه الحالة، لا نملك إلا الحاضر، وخصوماته ونزاعاته كثيرة، لا تُعلق على السَّابقين، ويجب ألا تحال إلى اللاحقين، لذا علينا أن نحل من يتخذ من نَقَاء اللَّحظة الزَّمنيَّة مدخلاً. لمزيد من مقالات ◀ خالد عمر بن ققه