عندما حطت سفينة الإنقاذ «ايكوريوس»، التى تحمل على متنها نحو 600 مهاجر ولاجئ، رحالها على شواطئ مدينة فالنسيا الإسبانية بعدما ظلت فى عرض البحر المتوسط نحو الاسبوع بحثاً عن ميناء يقبل استقبالها، لم يخرج الآلاف ترحيباً باللاجئين الذين تم انقاذهم على غرار مشاهد الترحيب التى قُوبل بها اللاجئون والمهاجرون عامى 2015 و2016. فالمزاج العام فى أوروبا تغير بشكل جذرى حيال قضية المهاجرين واللاجئين، وحتى العواصم المتعاطفة فقدت تعاطفها مع شعور أوروبى متزايد أن الملف «خرج عن السيطرة» وبات خطراً يهدد المشروع الأوروبى وقيمه. فمنذ عام 2014 دخل أوروبا نحو مليون و800 ألف لاجئ ومهاجر غالبيتهم من إفريقيا والشرق الأوسط، إضافة إلى البلقان فى أكبر موجة نزوح لأوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. ومع أن أعداد اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين هذا العام أقل من العام الماضى بكثير، لكن أزمة السفينة «ايكوريوس» أعادتها للواجهة، مع رفض ايطاليا ومالطا استقبال السفينة ولاجئيها برغم الضغوط الألمانية والفرنسية، ثم قبول أسبانيا على مضض استقبالها لبحث طلبات اللجوء. وخلال فترة تيه السفينة فى المتوسط بحثاً عن ميناء، تفجرت حرب كلامية بين الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الإيطالى جوزيبى كونتى حول «المسئولية» و»التضامن» فى هذا الملف الحساس. و فقد اتهمت فرنساايطاليا بالتخاذل عن الوفاء بالتزاماتها وفقاً لقوانين الأتحاد الأوروبى التى تنص على أن الدولة الأولى التى يصل إليهاالمهاجرون يجب أن تستقبلهم وتبدأ إجراءات بحث طلباتهم باللجوء على أراضيها (قاعدة قانون دبلن). وردت ايطاليا على الاتهامات الفرنسية، واصفة المشكلة ب «أزمة تضامن»، وان أيطاليا، ومعها أسبانيا واليونان، تحملوا فوق طاقتهم بسبب كونهم «باب أوروبا الأول» جغرافياً بالنسبة للمهاجرين واللاجئين القادمين عبر البحر المتوسط من إفريقيا والشرق الأوسط. وبعد الخلافات العلنية المحرجة، دعت المستشارة الألمانية انجيلا ميركل لقمة أوروبية طارئة لبحث الأزمة، حضرها 18 زعيماً أوروبياً. لكن القمة التى هدفت إلى تقريب المواقف ووجهات النظرأسفرت عن المزيد من الخلافات الهيكلية التى تهدد قيم ومعاييرالمشروع الأوروبي، وانتهت بكشف عمق الشروخ داخل أوروبا حيال ملف الهجرة. وليست مبالغة القول أن أوروبا تقف على حافة هاوية. فسياسة «الباب المفتوح» التى اتبعتها ميركل منذ عام 2015 حيال المهاجرين واللاجئين» ماتت ودفنت» بعدما أدى استقبال تلك الأعداد الهائلة إلى صعود غير مسبوق لليمين القومى الأوروبي. لكن وبرغم الموت العملى لسياسة «الباب المفتوح» لم تحل محلها سياسة أوروبية موحدة بديلة. وما تشهده أوروبا حالياً هو سياسات متضاربة وعشوائية هدفها «حماية» أوروبا من المهاجرين واللاجئين بإقامة وإنشاء حدود بين الدول الأوروبية من ناحية، ومد حدود أوروبا إلى سواحل شمال أفريقيا من ناحية أخرى مع مقترحات جديدة تتضمن إقامة مراكز لتقييم طلبات اللجوء فى دول شمال أفريقيا بدلاً من أوروبا. وتهدد الأزمة الإتحاد الأوروبى بأخطار وجودية مع انقسام أوروبا حالياً إلى 3 تكتلات متعارضة. الكتلة الأولى: دول أوروبا المتوسطية، وهى ايطالياوأسبانيا واليونان ومالطا القريبة من دول «المنبع» التى يأتى منها المهاجرون واللاجئون. وتريد هذه الدول تقاسم الأعباء سياسياً ومالياً ولوجستيياً بينها وبين باقى دول الإتحاد الأوروبي. وتشتكى من أن باقى الدول الأوروبية تتعامل معهم بوصفهم «مقلب» لاستقبال مئات الآلاف من اللاجئين. الكتلة الثانية: دول شمال غرب أوروبا وعلى رأسها المانياوفرنسا التى تتحمل الكثير من الأعباء المالية فى ملف المهاجرين. وتريد هذه الكتلة تقاسم الأعباء المالية وتوحيد سياسة أوروبية «رحيمة وبرجماتية» فى الوقت نفسه للتعامل مع هذا الملف الحساس. الكتلة الثالثة: دول أوروبا الشرقية سابقاً التى انضمت حديثاً للإتحاد الأوروبي. ولا تريد هذه الدول استقبال لاجئين أو تحمل تكلفة مالية من أى نوع، وصوت هذه الدول هو الأعلى فى رفض سياسة «الباب المفتوح» التى اتبعتها ميركل. وخلال القمة الأوروبية الطارئة قبل أيام، دعت المانياوفرنسا والحكومة الاسبانية الجديدة، إلى سياسة أوروبية موحدة حيال أزمة المهاجرين وتوزيع أعباء الأزمة بالتساوي. لكن المجر وبولندا وجمهورية التشيك ضمن دول أوروبية آخرىرفضت فكرة توزيع الأعباء على أساس أن أوروبا يجب ان تتخذ موقفاً صارماً من استقبال المزيد من المهاجرين وطالبى اللجوء. وبسبب ذلك الاستقطاب الحاد داخل أوروبا، باتت ايطاليا ومالطا واليونان وأسبانيا تنتهج مواقف متشددة مماثلة لسياسات دول أوروبا الشرقية سابقاً من رفض استقبال سفن اللاجئين والمهاجرين حتى إذا دخلت مياهها الإقليمية. وخلال القمة الأوروبية الطارئة اقترح رئيس الوزراء الأيطالى جوزيبى كونتى إعادة التفكير فى تعريف حدود أوروبا الآمنة. وبالنسبة له، على غرار الكثير من قادة اليمين الأوروبي، فإن حدود الأمن الأوروبى يجب أن تبدأ من سواحل شمال أفريقيا. وفى هذا الصدد بحثت القمة الأوروبية الموسعة قبل أيام، مقترحين لتفعيل فكرة التعامل مع أزمة المهاجرين واللاجئين قبل أن تحط أقدامهم فى أوروبا. المقترح الأول، يتمحور حول تحسين الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية فى الدول الأكثر طرداً للسكان فى افريقيا والشرق الأوسط، وذلك عبر زيادة الاستثمارات والمساعدات وحل الصراعات السياسية المتفاقمة. المقترح الثاني، يتمحور حول إقامة مراكز استقبال والتعامل مع طلبات للجوء على أراضى دول شمال أفريقيا لوقف ظاهرة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا وتحسين قدرات خفر السواحل للتعامل مع مافيا المهربين. كما أن هناك مقترحات آخرى من بينها علاج اخفاقات النظام الأوروبى اللجوء. ففى حالة رفض طلب اللجوء، ليس هناك أى آليات أوروبية محددة وواضحة لإعادة طالبى اللجؤ إلى البلدان التى جاءوا منها. كذلك بسبب نظام تأشيرة تشينجن، فإن طالبى اللجوء من حقهم التنقل بحرية داخل أوروبا خلال فترة نظر طلباتهم للجوء، والتى قد تستغرق أعواماً. وفى غالبية الحالات، يتسرب هؤلاء داخل أوروبا بشكل غير شرعى ما يجعلهم عرضة لانتهاكات جسيمة. ومع أن أعداد اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا تراجعت بنحو 85% مقارنة بالعام الماضي، لكن ما جعل الأزمة حاضرة سياسياً واعلاميا خلال الأيام الأخيرة هو ان الخلافات الأوروبية حول التعامل معها لم تكن يوماً أوضح مما هى عليه اليوم. فعلى عكس مبادئ المشروع الاوروبى القائمة على حرية الحركة والتنقل، شيدت المجر وبولندا والنمسا واليونان أسوارا وحواجز لوقف اللاجئين والمهاجرين من التسلل غير الشرعي، ما دعا رئيس الوزراء الإيطالى إلى التحذير قبل أيام من أن نظام تأشيرة تشينجن كله معرض للانهيار. ومع أن هناك أصواتا كثيرة تحذر من أن التعامل الحالى مع أزمة اللاجئين والمهاجرين يخيم على الأتحاد الأوروبى ويمنعه من التركيز على قضايا آخرى جوهرية على رأسها إصلاح اليورو وتخفيض الديون الداخلية، إلا أن الحقيقة أن النقاش حول المهاجرين فى أوروبا أصبح «مسمماً» وعدائياً جداً. أما انجيلا ميركل التى بدأت سياسة «الباب المفتوح» 2015 وكانت أقوى زعيم سياسى فى أوروبا، فهى اليوم أضعف من أى وقت مضي. فقد خسرت الكثير من قواعدها الشعبية منذ 2016. وبعد الانتخابات التشريعية الأخيرة إضطرت إلى تحالف انتخابى مع أحزاب محافظة معارضة لسياسة «الباب المفتوح». لكن قلق ميركل ليس حول مصيرها السياسى أو مستقبل ائتلافها الحكومى الهش الذى تعصف به الخلافات بسبب أزمة الهجرة بل حول مصير المشروع الأوروبى كله. وهى لم تحاول تخفيف صعوبة الوضع عندما قالت عشية القمة إن «أزمة الهجرة قد تقررمصير أوروبا».