طمع الغرب في الشرق قديم, ففي القرن الرابع قبل الميلاد زحف الإسكندر الأكبر علي الشرق بادئا حقبة من الاستعمار والقهر الحضاري والثقافي والديني والسياسي والاقتصادي استمرت عشرة قرون. فلما ظهر الإسلام في القرن السابع الميلادي, وحررت فتوحاته أوطان الشرق وضمائر شعوبه, أدرك الغرب الاستعماري أنه قد أصبح بإزاء حضارة إسلامية فتية ومنافسة, لديها خاصية العطاء العالمي خارج حدودها الجغرافية. وذلك علي عكس حضارات الشرق الأخري الصينية واليابانية التي هي محلية لاتأثير لها خارج حدودها الوطنية.. ولقد رسخ من هذه الحقيقة امتدادات الإسلام في الأندلس وصقلية والأناضول والبلقان, وفي روسيا عندما حكم التتار المسلمون موسكو حقبة من التاريخ! ولقد انتهز الغرب فرصة الضعف الذي أصاب الشرق الإسلامي تحت حكم الشيعة الباطنية الإسماعيلية الفاطمية فجيش فرسان الاقطاع الأوروبيين خلف الكنيسة الكاثوليكية, وبتمويل من المدن التجارية الأوروبية جنوة, ونابلي, وبيزا في حرب صليبية ضد الشرق, دامت قرنين من الزمان,489 690 ه1096 1291 م] وشاركت فيها كل شعوب أوروبا, حتي لقد كانت أول وأطول الحروب العالمية في التاريخ المكتوب!.. وخلالها لم يتورع الغرب الصليبي عن التحالف مع التتار الوثنيين ضد الشرق الإسلامي, فتم دمار بغداد,656 ه 1258 م] وبلاد المشرق الإسلامي, حتي أنقذت مصر الوجود الإسلامي بالانتصار في عين جالوت,658 ه1260 م]. فلما ظهرت دول الفروسية الإسلامية السنية الزنكية.. والنورية.. والأيوبية.. والمملوكية واستطاعت تحرير الشرق مرة ثانية من الاستعمار الاستيطاني الصليبي, كانت هزيمة الغرب العسكرية في الشرق الإسلامي بداية نهضته الحضارية الحديثة, بعد الاحتكاك إبان هذا الصراع بحضارة الإسلام في الأندلس. صقلية.. والمشرق العربي فتلمس طريقه الي الثورة الصناعية والليبرالية التي أخرجته من كابوس الكنيسة.. علي حين كان الشرق المنتصر عسكريا قد دخل مرحلة التخلف الحضاري الذي فرضه امتداد عسكرة الدولة المملوكية.. والعثمانية لعدة قرون.. فبدأ الغرب مرحلة ثالثة من الصراع ضد الشرق عقب إسقاطه غرناطة.1492 والنجاح في الالتفاف حول إفريقيا سنة1497 م, ووصول البرتغاليين الي الأطراف الإسلامية في شرقي آسيا رافعين شعار: التوابل والمسيح: أي التجارة والنهب الاقتصادي, وتنصير المسلمين.. وبعد مرحلة الالتفاف حول العالم الإسلامي, جاء الدور علي قلب العالم الإسلامي, فزحف بونابرت بحملته الفرنسية علي مصر والشام سنة1798 م ساعيا الي إعادة امبراطورية الإسكندر الأكبر, والي تحقيق حلم الملك الصليبي لويس التاسع,1214 1270 م].. لكنه لقي هزيمة منكرة أمام ثورات الشعب المصري, الذي قدم سبع تعداده شهداء لتحرير وطنه, وكسر شوكة بونابرت الذي دوخ أوروبا! ولقد أعقب الانتصار المصري علي الحملة الفرنسية يقظة شرقية, قادها علماء الأزهر, الذين عزلوا الوالي التركي1805 م, واختاروا محمد علي باشا,1184 1265 ه1770 1849 م] الذي قاد بناء مصر الحديثة, وانتقل بها من وضع الولاية العثمانية الي مركز سلطة ودولة امتدت حدودها لتشمل السودان والقرن الافريقي وشواطئ اليمن ومعظم بلاد المشرق العربي. وعند ذلك, أرسل نترينج,1773 1859 م] بعثة درست مشروع محمد علي فكتبت تقريرها الذي قالت فيه: إنه يعيد إنشاء دولة الخلفاء الراشدين!!.. فما كان من أوروبا الا ان تناست تناقضاتها الاستعمارية لتجتمع علي سجن مصر داخل حدودها القطرية بمعاهدتي لندن سنة1841 وسنة1840 ولتحرمها من مجالها الحيوي, لتذبل طاقتها النهضوية, التي كانت سابقة لليابان في ذلك التاريخ! الأمر الذي فتح الباب أمام الاستعمار الأوروبي لاختطاف الأقاليم الواقعة تحت الحكم العثماني دولة الرجل المريض ومنذ ذلك التاريخ تصاعد المد الاستعماري الغربي, حتي عمت بلواه كل أوطان الشرق باستثناء الحجاز وشمالي اليمن عقب الحرب العالمية الأولي, واسقاط الخلافة العثمانية سنة1924 م.. وفي ظل عموم هذه البلوي أقام الغرب قاعدته الحضارية والعسكرية الصهيونية في قلب الوطن العربي, كلب حراسة لإجهاض مشاريع النهوض العربي والإسلامي.. كما سعي.. بالتغريب لاحتلال العقل المسلم, ليصبح المركز الأوروبي هو القبلة الحضارية للشرق, وحتي تنكسر شوكة الحضارة الإسلامية البديلة والمنافسة لينفرد النموذج الحضاري الغربي بالسيادة علي كل دول الجنوب ومن هنا كان التسويق لنماذج التحديث الغربية من الليبرالية الي القومية الشوفينية وحتي الشيوعية وفي سبيل ذلك صنع الغرب.. وفق مناهجه النخب العلمانية المتغربة, التي عملت. في ظل الاستعمار.. وبعد تحقيق الاستقلال الشكلي.. استقلال العلم والنشيد.. علي تكريس تبعية الشرق للنموذج الحضاري الغربي. وعندما حدثت هزيمة سنة1967 م التي كانت أكبر من هزيمة عسكرية اذ مثلت أيضا هزيمة لنماذج التحديث الغربية, بدأ الصعود للخيار الاسلامي, بالعودة الي الذات الحضارية علي امتداد أقطار الشرق بل وفي داخل الأقليات الإسلامية بالبلاد غير الإسلامية فيما سمي بالصحوة الإسلامية وعندئذ ومرة أخري سرعان ما اجتمع الغرب الاستعماري وتداعت مراكز الهيمنة الغربية لاتخاذ الإسلام الذي سموه الخطر الأخضر عدوا, أحلوه محل الخطر الأحمر الشيوعي. وعند هذا المنعطف لم يعد الغرب بمؤسسات هيمنته السياسية والدينية ومن خلال مفكريه الاستراتيجيين يخفي عداءه الصليبي للبعث الإسلامي وللنموذج الحضاري الإسلامي.. ففي ثمانينيات القرن العشرين, وإبان ترنح المنظومة الشيوعية, أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون,1913 1994] وهو مفكر استراتيجي مرموق كتابه, الفرصة السانحة], الذي أعلن فيه الحرب علي البعث الإسلامي الذي سماه الأصولية الإسلامية معرفا أصحاب هذه الأصولية بأنهم هم: 1 المصممون علي استرجاع الحضارة الإسلامية السابقة عن طريق بعث الماضي2 وتطبيق الشريعة الإسلامية 3 والمناداة بأن الإسلام دين ودولة وبرغم انهم ينظرون إلي الماضي فإنهم يتخذون منه هداية للمستقبل فهم ليسوا محافظين ولكنهم ثوار. كما دعا نيكسون الغرب للتحالف مع موسكو ومع الأرثوذكسية الروسية لهزيمة هذا البعث الإسلامي, ولدفع الشرق علي طريق العلمانية الأتاتوركية, التي ربطت تركيا بالغرب سياسيا واقتصاديا وذلك حفاظا علي مصالح الغرب في الشرق: النفط وإسرائيل! وفي هذا الكتاب, بدأ نيكسون حرب الاسلاموفوبيا التخويف من الاسلام عندما قال: ان الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون الي كل المسلمين كأعداء.. ويتصورون ان المسلمين شعوب غير متحضرة ودمويون وغير منطقيين وليس هناك صورة أسوأ من هذه الصورة حتي بالنسبة للصين الشيوعية.. ويحذر بعض المراقبين من أن الإسلام والغرب متضادان.. وأن الاسلام سيصبح قوة جيبوليتيكية متطرفة, وأنه مع التزايد السكاني والإمكانات المادية المتاحة, سوف يوحد المسلمون صفوفهم للقيام بثورة ضد الغرب!!.. ومنذ ذلك التاريخ وعقب سقوط الشيوعية اتخذ الغرب الإسلام عدوا!؟ المزيد من مقالات د. محمد عمارة