لن أكتب عن مباراة مصر والسعودية للعقد التى صاحبتها ولا عن القوانين التى تسن على عجل للإعلام لمعالجة الإهمال والعجزالمزمن، والخلل المالى وما تثيره من مخاوف بين الصحفيين، لكنى فضلت الكتابة عن مصير السيدة صفصافة خالة أستاذتى فى الصحافة، وكانت فتاة صعيدية ولدت فى اليوم الأول من القرن العشرين، كانت قمحية اللون ذات عيون خضراء، عندما أصيبت فى طفولتها بالجديرى انهالت هرشا فى وجهها، مما ترك آثارا لم تمحها السنون، أضاع الجدرى عينها اليسرى وألقى بغشاوة كثيفة على عينها اليمنى، ولكنها لم تنسها ذكرياتها الأليمة عن الطفولة التى نقلتها لنا ابنة أختها الدكتورة عواطف عبد الرحمن أستاذة الصحافة فى مذكراتها التى حملت اسم صفصافة، وصدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فقد عاشت صفصافة لسنوات طويلة مصدر الحنان الكامل والمرجعية الوحيدة التى تدين لها الدكتورة عواطف بالتبعية، رسمت لها الخطوط الفاصلة بين الحياء والجرأة والحق والباطل وتعاليم الدين الأساسية، وقواعد الاستنارة، والانحياز للغلابة، وكان بيت صفصافة مكونا من قسمين، الأول كان يعيش فيه الجد وكان يتميز بمستوى حضارى راق من الناحية المعمارية، والأثاث وتكنولوجيا الطبخ والطعام والباحات الواسعة والأسقف المرتفعة، بينما القسم الثانى الذى تعيش فيه صفصافة يأوى إليه الفرع الأصيل من العائلة الذي يضم الفقراء وذوى الحاجات، ويتكون من دورين وسطح محاط بسور ومنشر للغسيل وسلالم متهالكة وباحة صغيرة يتوسطها الزير تحيطه مجموعة من القلل القناوى، وتحكى صفصافة لأطفال العائلة عن خالها الذى لجأت اليه جدتها «نقطة» بعد وفاة والدها وزوجها لحماية ميراثها وبناتها الصغار من طمع الأعمام والأخوال والأقارب فى ميراثهن من الأرض الزراعية البالغ مساحتها 12 فدانا، فكتبت للخال ورقة تثبت ملكيته الأرض لمدة عشر سنوات ، لكن المدة امتدت طوال حياته، وخلال هذه المدة لم يكن يعطيهم منها إلا القليل من القمح والحبوب، والقليل من النقود فى المواسم والأعياد، وعندما كبرت البنتان وأصبحتا على وش جواز ذهبت الجدة «نقطة» تطالبه بإعادة الأرض، لكنه ظل يماطلها وكلما زادت حالته سوءا زاد إلحاحها وخوفها، وعندما شاهدت تدهور صحته، جلست تحت أقدامه وترجته وتوسلت إليه أن يعيد حق اليتامى، قبل أن يلقى وجه ربه، فكان يشيح بوجهه عنها ولاحظت «نقطة» أنه يضع كل أوراقه وأمواله فى كيس مخدة تحت رأسه، فانتهزت فرصة نومه ومدت يدها وأخرجت الورقة، وقبل أن تتحرك فتح عينيه والتقط منها الورقة ووضعها فى فمه وبلعها، وعاد إلى غيبوبته ولفظ أنفاسه الأخيرة، وماجرى لجدة صفصافة وبناتها بسبب عدم وجود رجل يحميها، وصار مصيرها وبناتها فى يد خال طامع فى ميراثها وشعورها بأنها مثل بيت بلا سقف يشبه حال أشجار الصفصاف الفرعونى الأصيل، الذى لم يبق منها على طريق قريتنا على شاطئ الرياح التوفيقى من بنها حتى دقادوس إلا أعداد قليلة لا تعد إلا على أصابع اليدين، وبعد أن كان اتساع هذه الصفصافة الواحدة فى دائرة قطرها يزيد علي عشرة أمتار وتتدلي أغصانها حتى صفحة الماء ويتخذ منها أبو قردان سكنا ومأوى ويحتضن أوراقها التي تلف نفسها عليه فيقضى ليلته منعما بدفئها، انقرضت هذه الأشجار وأصبحت واهنة وفروعها عارية وخالية إلا من أوراق جافة وقليلة لا تحمى من برد ولا تقى من حر، ولا يأمن أبو قردان على ليلته إن اتخذها مأوى له، ولا أعرف هل اختلال العلاقة بين أبو قردان وأشجار الصفصاف الحديثة بسبب الافراط في استخدام المبيدات الحشرية فى الحقول وإدمانه التقاط رزقه من أكوام القمامة، ونفايات المصانع وزبالة البيوت فشعرت شجرات الصفصاف بأنه لم تعد لحياتها قيمة، ولا لشعورها الطوال جاذبية أم أن جينات أشجار الصفصاف نفسها قد تغيرت بعد إهمال عمليات تطهير الترع وغسل المجري وتحول النهر الجارى إلى مخرات راكدة ومقالب للصرف الصحي وأدى ذلك إلى خلل فى جيناتها ورائحتها، وهو نفس ماجرى للجدة «صفصافة» حين أصيبت بالجدرى فصارت تشعر بحرقان وأكلان فى وجهها وتخيلت أن الهرش علاج فانهالت علي وجهها حتي تشوه، ولم تجد من يسعفها فضاعت إحدى عينيها ، وسرعان ما فقدت الاثنتين وصارت ضريرة، وكما اتخذ أبو قردان أشجارا أخرى بديلة منها أشجار الكافور والكزورين والسرو ووجد فيها أبو قردان انتشارا أوسع فى زوايا الرؤيا وأبعد عن الروائح العطنة لمياه الترع التى فقدت عذوبتها، وهكذا لقيت أشجار الصفصاف على الترع مصير الجدة صفصافة خالة أستاذة الصحافة الذى أدى عدم تكتيف يديها لتقديم العلاج الناجع منذ بداية إلى إصابتها بمرض الهرش الذى أثقل كاهلها، وكانت النهاية تشويه وجهها وضياع عينيها وإصابتها بالعمى الكامل فأصبحت وذريتها مطمعا لورثة غير شرعيين لخالها الذى خذلها، وابتلع حقها منذ البداية، وهو الذى توقعت منه ومن ذريته الأمان والحماية . لمزيد من مقالات ◀ أنور عبد اللطيف