لم يعُدْ مقبولاً فى «ساحاتنا الإسلامية» التَّخلى عن استعمال العقل من أجل إحداث تفريق بين العلم والدين، سواء لجهة الاعتراف بوجود خلاف واختلاف بينهما، أو لجهة تمييز الصِّيغ المادية والروحية فى كل منهما هذا أوَّلاً، وثانياً: من الضرورى إنهاء ادخالنا فضاءات الصراع الوهمي، وثالثاً: ضرورة تفعيل دور «البيئة الثقافية الأسرية» فى اتاحة الفرصة للعقل ليذهب بعيدا. هذه المطالب، أو الآمال المنتظرة، فى تحققها كُلها أو بعضها تُعَدُّ مدخلاً ضرورياًّ للتَّغيير، حيث تُشد الرحال إلى فضاءات، تتحكم فى انطلاقتها ضمن مساراتها المختلفة، السرعة والدقة والموضوعية والعقلانية، وتلك صفات العلم، وسمات العصر أيضا، ما يعنى أن إشكاليات المعرفة بعيداً عن التحيُّز الأيديولوجى أو التحكم العقائدى البشرى لجهة التصنيف الاجتهادى ضمن دائرة الكفر، الذى هو توظيف سياسى بالأساس هى طريقنا المستقيم نحو اسهام حضارى فى الصيغة العالمية للتعايش ضمن فضاء عملى رحب، مُوَازٍ أو يَلْتَقى مع فضاء أرحب، تحكمه الغيبيَّات، تُقٍبَل أو تُرْفَض إيمانيا، لا تشكل نقيضا وهميا أو حقيقيا للعلم فى بُعْدِيه المادى والتجريبي. إنَّنَا والحال تلك، مضطرون إلى الاحتماء بكتابات عميقة، وأحسب أن هذا متوافر فى كتابب أسئلة الإسلام والعلم المزعجة.. الكون، التطور، الإعجاز، للدكتور نضال قسُّوم، أستاذ الفيزياء ومساعد عميد فى كلية العلوم والفنون فى الجامعة الأمريكية بالشارقة فى الإمارات. تكمن أهمية هذا الكتاب على حد ما يذكر مؤلفه فى كونه «يُقدّم عرضاً مبسّطا للعلم الحديث سواء فى منهجيته، أو فى نظرياته ونتائجه الكبيرة ذات العلاقة بمعتقدات الناس عامة والمسلمين خاصة، بما فى ذلك نظريات الكون، وتطور الحياة( داروين)، كما يناقش مسألة الصنع فى الطبيعة ومكانة الإنسان فى الكون من جهة، ومن جهة أخرى يتناول طروحات شعبيَّة مثل: الإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، حيث يفكك مبادئها، ويفحص طرقها ونتائجها، ويبين فى الأخير جوانب الخطأ المختلفة فيها». يرى قسوم أن «العلم الحديث جاء بتحديات مثيرة تتمثّل فى منهجية طبيعانية صارمة، وفى بعض النظريات والنتائج التى أخرجها للعالم، فمن جهة، يصرّ معظم العلماء اليوم على أن العلم لا يقبل إلا الأسباب الطبيعية لتفسير أيَّ ظاهرة، أى أنه يُخرِج كل الغيبيات (الله، الملائكة، الجن، الأرواح) من نطاق عمله ونقاشاته، ويترك ذلك للاعتقاد الشخصى المحض، ومن جهة أخري، قدّم العلم الحديث نظريات للخلق (الكون، الأرض، الحياة، الإنسان) ونتائج تختلف إلى حد كبير مع ما فى الطروحات الدينية التقليدية». ومع أن هذا الكتاب يحمل كمّاً كبيراً من المعرفة المتنوعة (العلمية والفلسفية والدينية)، يعرضها المؤلف بشكل واضح، وقد أخرجها من صلابة الحقائق العلمية إلى نعومة النصوص الأدبية مرفقة بقصص عديدة، بما فى ذلك عروض شيّقة عن عدد من الشخصيات المهمة، القديمة والحديثة، الإسلامية والغربية من جهة، وفتح باباً واسعاً للنقاش حول مواضيع جوهرية حول الإسلام (تفسير وتأويل آيات القرآن، فهم جديد لمفهوم الخلق.. إلخ) والعلم الحديث (كيفية التعامل مع النتائج والنظريات الجديدة) من جهة ثانية، إلا أن هذا نقاش بين العلماء، وعلى أوسع نطاق هو جدل بين عناصر النخبة وقد يكون ذلك هو المطلوب لكن هذا النقاش العلمى والفلسفى المثير سيبقى بعيداً عن تناول العامة أو الجماهير الواسعة، أولا: لأن لديها من تثق فيه من مُؤَوّلين ومُفسِّرين وحتى أشباه علماء هم أقرب للمشعوذين، وثانيا: لأن المؤسسات الرسميَّة لا تجرؤ على دعم النظريات العلمية لتعديل المسار الفكرى للمجتمعات، لحسابات سياسية، وإن حملت أحيانا لبوساً دينية. هكذا إذن، يحاول «قسوم» الجمعَ بين يقينيَّات العلم وتعاليم الإسلام( المرتكزة على الغيبيات) من أجل انشاء، وتصدير، خطاب رصين ينظم العلاقة بين الإسلام والعلم الحديث، والسؤال هنا: من سيتبنّى هذا الخطاب، إذا كان دور العقل لجهة حسمه بين اليقينيات والغيبيات لا يزال محل نقاش؟!، مع أن العلم يقدم أدلة دامغة على تطور بعض الظواهر الكونية بما لا يتفق مع الدين أحيانا، وهذا يعنى أن الجهد المبذول من الكاتب لإثبات أن نظرية التطور مثلا لا تتعارض مع المعتقدات الإسلامية الأساسية، وأن الكثير من العلماء، ابتداءً من العصر الذهبى للإسلام وحتى عصرنا الراهن، اعتمدوا الرأى السائد الذى قبِل بالتطور كأمر مسلم به، يرافقه على الطريق علماء متناثرون فى العالم الإسلامي، تأثيرهم محدود للغاية، ومعرفتهم من طرف المختصين، يعتريها الجحود أو النكران فمابالك بالعامّة؟ّ!. يبقى أن نشير إلى أن نضال قسوم يتطرق إلى مسألة رئيسة ضمن قضايا كثيرة أثارها فى كتابه الشيق والثرى والمتميز، تتعلق بأخذ المسلمين الأسئلة العلمية - الأسئلة الكمية تحديداً بجدّية، إذا كانوا يريدون استعادة تراثهم الحقيقى ونزاهته، وفى ذلك إسهام منهم فى إثراء فى النقاش الجدلى الدائر فى مجال «العلم والدين»، وقد يكون هذا العرض جزءاً منه. لمزيد من مقالات ◀ خالد عمر بن ققه