كتب فيلسوف السياسة والتاريخ الأمريكى صمويل هنتنجتون فى كتابه الشهير «النظام السياسى فى مجتمعات متغيرة» عن الفساد قائلاً: قد يكون الفساد أكثر انتشارًا فى بعض الثقافات عن غيرها ولكن فى أغلب الثقافات يبدو أنه أكثر انتشارًا خلال أكثر مراحل التحديث سرعة. ولما كنا نمر بالفعل على يد الرئيس السيسى والنظام السياسى الحالى بواحدة من أكثر مراحل التحديث سرعة فى تاريخ مصر، فقد أردت أن ألفت الانتباه إلى هذه المقولة المهمة، فنحن بطبيعة الحال قد عانينا خلال الأعوام الأربعين السابقة على عام 2011م صورا متعددة من الفساد وقد شهد ذلك العام واحدة من أهم الثورات المصرية على مر التاريخ وقد كانت كذلك لأنها قامت ضد فساد النظام السياسى وجموده وعرقلته حركة الأجيال ومنعها من تأدية دورها فى تطهير أجهزة الدولة وقيادتها لصنع التغيير والتطوير المستمر. وإذا كانت تلك الثورة قد قامت ضد فساد الحكومة والنظام السياسى وسدنته، فإن ثورة الثلاثين من يونيو قد قامت ضد صورة أخرى من صور الفساد وهى الفساد الدينى حيث استغل الإخوان المسلمون، الذين لم يكونوا إخوانًا ولا مسلمين حقًا ومن شايعهم، الدين للسيطرة على الدولة وتوجيهها لتحقيق أهداف سياسية فاسدة تفرط فى وحدة المصريين وانتمائهم إلى الأرض التى ورثوها عن أجدادهم منذ آلاف السنين لتحقيق حلم مزيف زينه الأعداء لهم وهم عن الوعى كانوا غائبين فى غمرة الشعور بالسعادة الطاغية لتمكنهم من تحقيق أهدافهم الوقتية الفئوية الممقوتة وليذهب الوطن ومواطنوه إلى الجحيم. أقول لقد تخلصنا من صور فجة للفساد حقيقة من خلال هاتين الثورتين، لكننا رغم كل الجهود التى تبذلها الدولة وقيادتها السياسية والأمنية والرقابية لم نتخلص بعد من الفساد بشكل كامل. ولعل السائل يسأل : لماذا ونحن نشهد الآن نشاطًا ملحوظا لأجهزة الرقابة الإدارية وكشفا متواليًا لصور من الفساد المالى والإدارى وتقديمها لمحاكمات عاجلة؟! إننا ينبغى أن نميز بين نوعين من الفساد: الفساد الظاهر للعيان والفساد الخفى الذى لم ننتبه إليه بعد حتى الآن. أما الفساد الظاهر فرغم أنه يزداد كما أشار هنتنجتون فى مقولته السابقة مع زيادة وتيرة التحديث لأنه نادرًا فى ظل هذه الظروف ما يستطيع حكم القانون ومراقبة الدولة اللحاق بالتمدد السريع للثروة، إلا أننا مع ذلك نستطيع تحجيمه ومحاصرته بإطلاق يد الأجهزة الرقابية المختلفة والإكثار من أفرادها وتحديث أجهزتها من جانب وبإعمال القانون وتسريع وتيرة المحاكمات وإعلان نتائجها على الشعب حتى يرتدع المرتشون والفاسدون فيتوقفون عن ممارسة هذا النوع الفج من الفساد. وفى ذات الوقت يمكن العمل على زيادة وتيرة التنمية الاجتماعية والثقافية والتعليمية لمواطنى الدولة من جانب آخر، فنشر ثقافة الأمانة فى العمل لابد أن يدعمها زيادة رواتب وحوافز كل العاملين فى الدولة خاصة فى الوظائف الحساسة والقيادية فى الدولة. أما الفساد الخفى فهو فى رأيى النوع الأخطر لأننا لم نلتفت إليه ولا نعتبره كذلك حتى الآن! إنه فساد الإهمال والارتجال الوظيفي؛ فهو ليس ظاهرًا للعيان ولا نتعامل معه باعتباره فسادًا كما لا توجد تشريعات وقوانين تمكن الأجهزة الرقابية من متابعته وملاحقة المتورطين فيه، والحقيقة أنه النوع الأخطر من الفساد الذى تعانيه الدولة الآخذة فى النمو وخاصة فى المراحل الانتقالية التى تضاهى المرحلة التى نعيشها فى مصر حاليًا. إنه الفساد الذى تلخصه الكلمات الشائعة على ألسنة معظم العاملين والموظفين «على قد فلوسهم» ! «يا عم هى الدنيا حتطير» و«اللى ما يخلصشى النهاردة يخلص بكرة»!. إن هذا التقصير فى أداء العمل وعدم الحرص على وقت العميل وعدم الاكتراث بما يترتب على إهمال الموظف من نتائج سلبية مع المتعاملين معه نتيجة تزويغه من العمل، أو نتيجة إهماله وعدم اهتمامه، هو أخطر جدا من ذلك الذى يطلب الرشوة ويقوم بإنجاز المصلحة بهمة ونشاط! إن أجهزة الدولة إذا ما أرادت كشف والقضاء على هذه الصور اللامحدودة من هذا الفساد عليها أن تقنن كل الخدمات وتحدد توقيتات دقيقة للانتهاء منها والأفضل ميكنتها فى ظل ما يشهده العالم وما نشهده نحن أيضًا الآن من تقدم تكنولوجى لخصته جملة الحكومة الإلكترونية، إن عدم الدقة فى أداء العمل والإهمال فيه يجب أن يكون عقابه فوريًا وشديدًا، ولا مانع يمنع مطلقًا من أن تصدر التشريعات التى تلاحق الموظف المهمل والمدرس المهمل، والعامل المهمل بعقوبات تتدرج لتنتهى بإمكانية فصله من عمله الحكومى تمامًا! إن مثل هذا التشريع ودخوله حيز التنفيذ الفورى سيجعل كل موظف فى مكانه مسئولاً عن أداء مهمته بإتقان والقضاء على فوضى العمل والإهمال فيه والتزويغ منه. إن هذا الفساد الخفى هو أخطر صور الفساد التى استشرت فى مجتمعنا وحولته إلى مجتمع مليء بالعمالة غير الماهرة من جانب والمقصرة فى أداء عملها من جانب آخر، وهذا كله ضد كل ما نطمح إليه وما تطمح إليه الدولة من تقدم نتمناه ونهضة مأمولة نسعى إليها لاهثين متحدين الزمن. لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى النشار