شيء ما لعله سر غامض يحرك التاريخ الإنسانى، يقيم الحضارات، يدفع حينا إلى الصراع والعنف، لا تستغنى عنه البشرية فى ماضيها وحاضرها ومستقبلها، أشار إليه المؤرخون وبخاصة المؤرخ الإنجليزى ارنولد توينبى بقوله:«إن التاريخ الإنسانى هو محاولة الروح قهر المادة» تلك فى نظرهم مسيرة الإنسان منذ خلقه الله وإلى أن يرث الله الأرض وما عليها، هذا السر هو أمر الحياة الدينية أو حياة الإيمان، طاقة خلاقة ليست من صنع الإنسان أو إبداعه، ليست وليدة خوف الإنسان من الطبيعة وظواهرها أو من الغيب، ليست وليدة جهل الإنسان، وإنما حياة الإيمان بالله هى هبة إلهية للإنسان أن شيئا ما فى دمه وأنفاسه، فى آماله وآلامه وقد صدق المتصوفون كافة بقولهم إن لله سكنا فى أعماق الإنسان، وفى الأديان آيات رائعة «ملكوت الله فى داخلكم» وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد. وكم حاول الإنسان قتل هذا النبض الإلهى فى نسيجه البشرى أو طمس أنواره، تارة بإلحاد معلن سافر، وتارة بحياة لا تبالي، وفى كل عصر وزمان دعاة للتخلص من الإيمان بالله، ففى العصور القديمة بعض من فلاسفة اليونان لم ينكروا وجود الله بل أنكروا عنايته بالإنسان هذا الكائن الحقير فى نظرهم ودعاة إلى حياة المتعة كالرواقيين والإبيقوريين، ولم تصمت هذه الدعوة فى مسيرة الأديان اشتدت خلال العصر المسيحى وأيقظها القرامطة فى العصر الإسلامي، أما فى عصرنا الحديث أى فى بداية النهضة بعد العصور الوسطى وبخاصة منذ القرن الخامس عشر الميلادى بدأت الحضارة الغربية تضع الله جانباً أو قل تضع الإيمان والدين على هامش الحياة، فالله الجديد هو العلم، لقد مات الله القديم فى عرف نيتشه وأسقط من عرشه خلال الثورة الفرنسية ومازال البعد عن الله مذهب الملايين سواء نظريا أو علميا أو أخلاقيا وسلوكيا، وفى عرفهم أن البشرية لقيطة فى الفضاء وليس للإنسان مصير آخر! وبعد الكوارث والحروب وجنون المتعة والتحلل من القيم الروحية، بدأت نهضة روحية فى انحاء العالم واشتدت موجات البحث عن سر الجوع الروحي، وتوهج اسم الله. كان رد الفعل عند أصحاب الإيمان والمتمسكين بأديانهم عنيفا عند البعض، عقلانيا عند البعض الآخر، وتنادوا بأن الحاجة ملحة للحوار والتضامن حفاظا على أعظم ما تمتلك البشرية وهو التراث الروحى الذى يقدر قيمة الإنسان وكرامة الحياة والرجاء فى المصير الأبدي، وللأسف كان رد الفعل عند بعض المجتمعات متطرفا عدوانيا وانطلقوا فى غير وعى إلى القتل والتدمير والترويع وتناسوا أن الإيمان لا يسود ولا ينتشر إلا بالنور وفى السلام والتعايش، وتعالت أصوات حكيمة تدعو للتعايش أساسا للحوار والثقافة الإنسانية، إن النظريات الاقتصادية والمبادرات السياسية ، إن خلت من نقطة الانطلاق الحقيقية للسلام والعدالة، فلن تحقق آمال البشر، ويقولون فى كتب كثيرة إن البشرية قادمة على عصور رهيبة، ويضيف قارئو الفنجان فى الاقتصاد والسياسة، أن عصر غزو الفضاء، واستنساخ الإنسان، وبرمجة العقول، أمور تبعث على القلق والخوف، بينما ذلك كله من ثمار العلوم التى هى لها غاية وهدف اكتشاف الطبيعة والاستمتاع بخيراتها فالمعرفة هى فى خدمة الإنسان، والمهم ألا يصبح الإيمان موضوع إهمال أو تغافل أو احتقار، وأزعم أن للشرق العربى رسالة خاصة فى هذا المجال بتعدد أديانه ومذاهبه، ويذكر المؤرخ المستشرق جاك بيرك فى كتابه العرب وقد عاش سنوات عشر فى بلاد العرب أن المطلق، أو الإيمان بالقيم الروحية إرث عربى قديم، إنها منطقة لم تفلت أبدا من هذا الإيمان كما لم يفلت منها، إن أبسط إنسان وأعظم العلماء فى هذه المنطقة تسرى فى كيانه «عقيدة المطلق» لذلك لم تفلح نظريات المادية أو الإلحاد فى بسط النفوذ على شعوبها ولم تخترق وجدانها، ومن ثم القول بأن الشباب يتحول إلى الإلحاد مبالغة ضارة وإنما الخوف الحقيقى عند الشباب ألا يجد رؤية واضحة للمستقبل أو أملا فى قيام دولة حديثة فى بلاده . إن التعايش بين الأديان ليس ترفا، بل هو هدف غاية الأديان قبل قيام الحضارات ورقى الفنون والآداب ، أما أسس هذا التعايش فيما نزعم، نرصد منها أربعة أسس: -الإيمان بالمطلق أى بالله الخالق القدوس المحبة والرحمة والجمال، فالإنسانية تمضى إلى الانتحار إن هى فقدت هذه البوصلة الإلهية. -الإيمان بقيمة الإنسان خليفة خالقه، صورة لمن أبدعه وسواه، إن إنسانا واحدا فى أى مكان فى الكرة الأرضية أغلى من كل الثروات فى العالم ولا يوجد إنسان يستحق الاستعباد والاحتقار. -الإيمان بقيمة الحياة، لأنها هبة الخالق للمخلوق فاحترام الحياة فى كل صورها شرع مقدس. - الايمان بالتعايش الدينى والروحي، لكم دينكم ولى دين من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، تعايش إيجابى فيه احترام لكل دين وكرامة لكل عبادة. وأزعم أنه من الصعب تحقيق سلام عالمى ثابت وقوى إن لم يتحقق سلام التعايش بين أصحاب الأديان، فاحترام الإنسان كل إنسان ليس تفضلا من إنسان آخر أو من حاكم، بل هو شرع إلهى فلكل إنسان مكانته عند خالقه الذى تسع رحمته كل خلائقه وتغرس ضميراً لكل إنسان يحاسب يوم الدين، إن القهر والظلم واحتقار الآخر أمر خطير يمزق الروابط الإنسانية، وأخطر منه أن يعيش الإنسان فى مجتمع يرغمه على الكذب أو النفاق أنه يدمر كرامة الإنسان، وبشاعة الإرهاب هى أن يدفع البشر إلى الحياة فى خوف دائم، والخوف كما نعرف يفرغ الحياة من جوهرها ومعناها، أن التعايش الديني، معناه احترام التراث الروحى والدينى لكل الشعوب وأن فى هذا التنوع والتعددية سنة من سنن الله فى الكون كله، وهذا التعايش يضفى على الحياة الإنسانية رونقا وبهاء لأن توهج الإيمان فى قلب الإنسان يعمق إحساسه بإنسانيته وإنسانية الآخرين، يجعله شاهدً حيا لما يؤمن به والحقيقة كما يقال فى الفلسفة تثبت الحقيقة. لمزيد من مقالات ◀ د. الأنبا يوحنا قلته