لا تعرف «عيدة» إلا الجرى. تستيقظ ، هى وأولادها والتروسيكل، مع الفجر ولا همّ لها إلا الجرى بسرعة فى الطرق والشوارع. لا شىء يمكن أن يوقفها سوى العلب الفارغة أو قطع الحديد..أى خردة يمكن أن تأتى بقوت للأفواه السبعة التى تطعمها. أى شىء يضمن لزوجها المُقعد رقدته ول «عشتها» أن تستمر فى فضاء «بنها» . كل يوم يمرّ عليها.. كل شقاء يترك لها أثره.. تشققات، كأنها أخاديد، فى القدمين وتجاعيد، حين تضحك عيدة ، تشبه أقواساً تحيط بوجهها الذى يبدو ، رغم أنها فى ال 40 فقط من عمرها، وجه امرأة من مخلفات الحرب محفوراً على ميدالية صدئة. غير أن الشىء الذى ترك ندبة فى روحها، ندبة لا تشفيها المراهم ولا الكريمات، هو رفض الجميع أن يزوجوا بناتهم من ابنها. قالت لى، بمرارة طفحت خارج فمها: «مش عارفة ليه ما حدش عايز يدينا بنته !!» عيدة، التى تنتمى لبدو الشرقية، لا تعتقد أن هناك عملاً يحط من قدر صاحبه طالما أنه عمل شريف، لكن الأعراف لا توافقها على رأيها ولا ترى فيها سوى امرأة مسترجلة تركب التروسيكل وتجمع الخردة. امرأة بليتْ وجاهتها من كثرة التجوال. عيدة بكت وهى تخبرنى أن كل الناس لم يتركوها تكمل طلبها حين عرفوه، وطردوها من البيت. مع ذلك هى لا تلتفت للوراء. حين تبدأ فى طريق، حتى وإن كان طويلاً، لا بد أن تنهيه. ستظل تجرى، لن تتوقف، طالما أنها لم تبن بيتاً ولم تزوج أولادها ولم تضع يدها بعد، ولا دموعها، على قبر الرسول.