في بر مصر المحروسة.. تحكي الجدة حدوتة قبل النوم للأحفاد, و تطل حكايات الصبا من البلكونات, ونشتاق لآذان الفجر والمغرب بصوت الشيخ محمد رفعت في رمضان, و نتذكر أغاني الست في ساعة العصاري... معشوقات يأخذنا الحنين إليها حتي لو أحكمنا غلق خزانة الذكريات. فالأصوات التي يرتبط بها المصريون تشبه اليوم الذي تمر ساعاته من الصباح إلي المساء وتشبه أيضا قصائد الشعر الخالدة علي مر الزمان. ولهذا إذا كانت لنا بداية فستكون مع اذان الفجر, لنتذكر صوت الشيخ محمد رفعت ابن حي المغربلين. فهو صوت يصعد بنا إلي السماء ويمس شيئا في القلب, و يملك عبقرية تمثل حياة كاملة منذ لحظات الميلاد. ويذكر المصريون أن الشيخ رفعت جاء إلي الحياة منذ مائة وثلاثين عاما ورحل عنها منذ اثنين وخمسين عاما في نفس يوم مولده في التاسع من مايو. وتبدو حكايته أيضا لمن يعرفها من حكايات الخيال. فقد نشأ طفلا جميلا, يؤمن أهل حيه بأن عيني جارة حاسدة كانت السبب في إصابته بالعمي وهو لم يكمل العامين من عمره. الا ان صوته كان تعويضا من الخالق عز وجل علي فقده نعمة البصر. فسرعان ما عرف طريقه وبدأ في ترتيل آيات القرآن الكريم حتي أصبح في سن الخامسة عشرة مقرئا معروفا لكل أبناء حي السيدة زينب. وانطلق من مسجد فاضل باشا إلي مساجد آل البيت ثم الاذاعة المصرية التي قرأ آيات الذكر الحكيم عبر اثيرها لأول مرة عند افتتاحها في نهاية مايو عام.1934 بعدها تعرفت مصر كلها علي صوته.واستمر لسنوات وسنوات يتلو ويجود حتي امتحنه الله تعالي في صوته الذي كان جزءا من الوجدان الوطني بإصابته بسرطان الحنجرة ليرحل بعد سبع سنوات عاني فيها الكثير وبقي صوته, الذي قيل عنه ان تسجيلاته الأخيرة التي تحتفظ بها الاذاعة المصرية كانت في فترة مرضه. فالصوت المعجزة الذي يبهرنا في رمضان لم يكن الا صوتا مريضا فقد الكثير من قدراته, فمابالنا بصوت الشيخ في شبابه. أما في الظهيرة وفي منتصف النهار فكان المصريين يستمعون الي سيد درويش, صوت البحر والبسطاء والثورة. فهو الوحيد الذي كان يملك في صوته ونغمه دولة كاملة من الفن,دولة تتسع لاغاني وطوائف الشعب العامل.فالكلمة الساخرة لبديع خيري والنغم ينتمي إلي طبقة الفلاحين والشيالين والعربجية والقهوجية وعمال التراحيل.. ففي واحد وثلاثين عاما فقط عاشها فنان الشعب بدأت يوم17 مارس1892 ورحل يوم10 سبتمبر1923 وخمس سنوات فقط واكبت تأجج الوطنية المصرية تمصرت الموسيقي وتوحد الناس علي صوت حماسي لم تطفئه الأيام. فهو صوت الظهيرة,يسبق صوت ام كلثوم التي يسمع غناؤها في كل المقاهي في ساعة العصاري. فقد دفع الشيخ سيد النغم في إتجاه مصر الشعبية,وسارت الست في اتجاه يكمل طريقه حين أرادت أن تقدم مصر المثقفة من خلال سلسلة طويلة من وصلات الغناء لشعراء قفزت بهم أم كلثوم من مستوي الورق الذي يقرؤه الخاصة إلي غناء يتذوقه العامة و هؤلاء الذين لم يصيبوا قسطا من التعليم. فمن النوادر التي تحكيها الست نفسها أنها سمعت مغنية أثناء مرورها بكورنيش الاسكندرية تغني في احدي الكازينوهات الليلية أبا الزهراء قد جاوزت قدري. وأعتبرت ما سمعته نجاحا حقيقيا, فقد اقتحم غناؤها الراقي البيوت والمقاهي وحتي الملاهي, وجمع صوتها العرب من الخليج إلي المحيط. أنغام وأنغام تطوف مصر, من الصباح الذي يعلن وجوده باذان الفجر إلي شمس الظهيرة التي تفرض إيقاعا حماسيا بين المصريين يساندهم في كفاحهم مع لقمة العيش لتأتي ساعات المساء بعبقرية شعرية تشي بإن المصريين كيان متحضر له ذوقه في دنيا الاشعار. هكذا كان بر المحروسة لزمن قريب, تسمع فيه سيد درويش و أم كلثوم وسلالة كبيرة من المقرئين وعبد الوهاب وعبد الحليم فالمصري عاش يبحث عن نغم يشجيه و يحمسه لمواصلة الطريق.والقائمة طويلة وممتدة من سيد درويش وحتي علي إسماعيل الذي أعاد الهارب المصري القديم إلي موسيقانا, وارتبط ذلك بنهضة المصريين في زمن الستينيات. ودائما ما كانت العودة الي الجذور من شروط النهضة في الفن والادب ومن مظاهرها في نفس الوقت.