منذ 30 عاماً وأم عبير تقعد فى نفس المكان، بالتوفيقية، ومعها أكياس البلاستيك وأعواد البخور وحياة قاسية لا تسردها الدموع. وهى تحكى لى قصتها حاولتْ أن تبكى، لكنّ حزنها استعصى على أن يسيل، تجمد فى عينيها كما لو كان حداداً ثابتاً يعلن عن نفسه فى كل نظرة. قالت لى، وهى تنظر فى خطوط كفيها كأنها تنظر فى سنواتها الستين : « كنت منتظرة عيالى يكبروا بفارغ الصبر، أتاريهم كبروا للموت والسجن». زوجها، ومهنته البناء، تهرّب من أداء الخدمة العسكرية، ولما سوّى أموره واستقر، أصيب ب «درن» فى الرئة تطور إلى سرطان، ومن ثم فقد نصف رئته. وهو، منذ 3 عقود، لا يعمل تاركاً البيت فى رقبة زوجته. وحدها، بمعاش زهيد ورثته عن أبيها، نهضت أم عبير بأعباء 3 بنات، تزوجن جميعاً، و3 أولاد.. أحدهم كان يعمل «ديليفرى» وذات يوم وجدوه هو والموتوسيكل صامتين تماماً على الأسفلت والدم ينزف من أذنيه. والولد الثانى أراد أن يسدد أقساط الموتوسيكل ويسند البيت مع أمه فحلّ محلّ أخيه غير أنه قُبض عليه بعد وفاة الأول ب 5 أيام ، وهو الآن يقضى حكماً بالسجن 7 سنوات. أى أنها فقدت اثنين من أولادها فى أسبوع واحد. أما الثالث فهو ما زال صغيراً.. لم يتعرج الدرب تحت قدميه. مع ذلك تتأهب أم عبير للأمل.. لفرح مفاجىء. ربما تريد أن تعود إلى الماضى، أو تستعيده، ومثلما كانت تعدّ الأيام ليكبر الأولاد، تريد أن تعدّها مجدداً، فقد يخرج محمد بسرعة من السجن، وأحمد من القبر. تريد أن تكشط ما طرأ على زمانها من تغييرات. أن تمسحه بأستيكة ! مسكينة أم عبير.