بعد فشل ما سمي ب "الربيع العربي"، في معظم البلدان العربية، عاد منهج ابن خلدون، في الدورة العصبية إلى الواجهة، والذي ينص علي أن الدول، تقوم على العصبية والعصبة الدينية، وأن عمر الدول قرن ونيف، وقد كان ابن خلدون، أول من حاول أن يضع أطوارا للدولة في تاريخ الأمم، وذلك عندما كتب أن الدول قد تموت. وتبدأ دولة أخرى على أرضية التوحش ومبادئ النصرة والعصبية، وهكذا. مقدمة ابن خلدون، أحد الكتب التي ألفها ابن خلدون عام 1377م، وقد ألف الكتاب كمقدمة تمهيدية لكتابه الضخم المعروف باسم كتاب "العبر"، ومع تقدم الزمان تم اعتبار "المقدمة"، مؤلفا منفصلا بحد ذاته بطابع موسوعي، تناول ابن خلدون مختلف جوانب المعرفة في مقدمته، ومنها علوم الشريعة والجغرافيا والعمران والسياسة والاجتماع، كما اهتم بأحوال الناس والفروق في طبائعهم وأثر البيئة فيهم، كما احتوت المقدمة، على توضيح كيفية تطور الأمم ونشوء الدول وأسباب انهيارها، وقد تمكن ابن خلدون في مقدمته، من عرض الكثير من الأفكار السابقة لعصرها، مما ساهم في اعتباره المؤسس الأول لعلم الاجتماع. ويمكن لقارئ مقدمة ابن خلدون، والمتمعن فيها أن يستخرج ثلاثة معايير تؤكد صحة ذلك وهي، أنه وضح في مقدمته، أن المجتمعات الإنسانية تسير وتتطور تبعا لقوانين وأسس معينة، كما يمكن استغلال هذه القوانين في التنبؤ بالمستقبل، في حال فهمها ودراستها بشكل جيد. أيضا، انعدام تأثر "علم العمران" بالحوادث الفردية، واقتصار تأثره بالمجتمعات كوحدة واحدة. أخيرا، إمكانية تطبيق القوانين ذاتها على مجموعة من المجتمعات الموجودة في أحقاب متباعدة، مع اشتراط كون البني موحدة فيها كلها. دعنا عزيزي القارئ الكريم، نتخيل ولو لبعض الوقت، أنفسنا في القرن الرابع عشر، وفي حضرة ابن خلدون. نعطيه وحده الحق في الكلام، ليقول لنا نحن الذاهبون إلى القرن الحادي والعشرين، "عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون، والمدعون، والكتبة والقوالون، والمغنون النشاز والشعراء النظَّامون، والمتصعلكون وضاربو المندل، وقارعو الطبول والمتفقهون، وقارئو الكف والطالع والنازل، والمتسيسون والمداحون والهجاءون وعابرو السبيل والانتهازيون. تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط". ويستطرد قائلا، في وصف الأزمنة الرديئة، كمن يتنبأ ب "داعش"، وكل أقرانها، "عندما تنهار الدول، يسود الرعب ويلوذ الناس بالطوائف، وتظهر العجائب وتعم الشائعات، ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق، ويعلو صوت الباطل، ويخفت صوت الحق، وتظهر على السطح وجوه مريبة، وتختفي وجوه مؤنسة، وتشح الأحلام ويموت الأمل، وتزداد غربة العاقل، وتضيع ملامح الوجوه، ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقا، وإلى الأوطان ضربا من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء، في ضجيج الخطباء، والمزايدات على الانتماء وعلى مفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين". أما الفساد، فإن له في فكر ابن خلدون، تجليات نقدية، إذ يجعله سببا لسقوط الدول. فهو القائل "إن الظلم يؤذن بخراب العمران. فإذا ارتكبت المعاصي من قبل النافذين في الدولة، ولم تستطع يد القانون أن تطالهم، كونهم محميين بمكانتهم ونفوذهم، فعندئذ تكون الدولة ساعية في طريقها إلى السقوط". لعل من أغرب ما يحدث في هذه الحقبة العربية تحديدا، ذلك الغياب الملحوظ لابن خلدون، بخاصة لمقدمته الشهيرة التي من المؤكد أن أهم ما فيها في ضوء راهننا المعاصر، هو تفسير صاحب المقدمة، انهيار الأمم والدول. فإذا كان ثمة من مفكر في تراثنا العربي، يبدو عمله الفكري كأنه توصيف واقعي لبعض - إن لم يكن لكل - ما يحدث من حولنا، لا ريب أن هذا المفكر لن يكون سوى ابن خلدون. وتحديدا في تلك "المقدمة"، والتي يبدو أننا لن نكون في غنى عنها أبدا. مهما يكن، وهنا لابد من طرح جملة من التساؤلات في هذا الصدد، هل كانت ثمة حقبة في زمننا العربي المعاصر، غاب فيها ابن خلدون، أو غابت مقدمته وابتكاره لعلم العمران، وحديثه المستفيض عن نشوء الأمم وزوالها؟ وهل كان ثمة زمن حديث كان يمكننا فيه أن نفهم ما يحدث، وربما ما سيحدث من دون الاستضاءة بفكر ابن خلدون والقواعد العمرانية التي شيدها؟. ومن ثم، لا يمكن فهم ما يحدث في العراقوسوريا من انتشار لفكر "القاعدة" و"داعش"، بدون الرجوع مرة أخرى للتاريخ، ولا يمكن إدراك سر التنظيم الذي يعملون من خلاله بدون قراءة كتاب "إدارة التوحش" للمؤلف أبو بكر ناجي، والمرتبط ايدولوجيا "بالقاعدة"، والتوحش كلمة استعارها المؤلف القاعدي من مقدمة ابن خلدون، ويقصد بها تلك الحالة من الفوضى التي تدب في أطراف الدول، والتوحش أيضا، قد يكون نتيجة للفساد الإداري ولإهمال الشعوب وإنكار حاجاتهم الأساسية. كان اهتمام الاستخبارات الغربية، بهذا الكتاب ملفتا للنظر، وكأنهم وجدوا العلة خلف انتشار الفكر المتطرف، بينما لم يكن الأمر أكثر من استدعاء للماضي في نظرياته وتراثه وأطواره، ومحاكاة لنظرية ابن خلدون في قراءته للتاريخ العربي، والذي اتسم بدورات عصبية أرضيتها التوحش، ووسطها الإعمار، ونهايتها الفوضى، ويبدو أن توحش السكان في التاريخ العربي سبب رئيسي في انطلاق الثورات الدينية. يعتقد منظر "القاعدة"، أن الأراضي التي تدب فيها الفوضى كما يحدث في سورياوالعراق، تكون "متوحشة" حسب نظرية ابن خلدون، ويعاني من آثارها السكان المحليون، لذلك يخطط منظرو "القاعدة"، أن تحل قواتهم تدريجيا محل السلطات الحاكمة تمهيدا لإقامة الدولة الإسلامية الجديدة من وجهة نظرهم. لعل السبب في العودة إلى تقاليد الماضي، في إقامة الدول كان بسبب الممانعة السياسية في تلك الدول خلال العقود الماضية في الدخول في العصر الحديث، وبسبب أيضا التأخير في إقامة حكم المؤسسات والعدالة الاجتماعية وآليات المجتمع المدني والحرية والتنمية المستديمة، مما هيأ المجتمع في تلك المناطق ليكون بمثابة البيئة الحاضنة في الأطراف المهملة لاستيطان التطرف، وقد تدخل المنطقة بسبب ذلك في عاصفة من الحروب إذا استمر سقوط المناطق في أيدي المتطرفين. الجدير بالذكر أن نظرية ابن خلدون العصبية ودور التوحش، في استمرارها لم تعد لها تطبيقات في العصر الحديث في الغرب، فقد تجاوزت أعمار الدول فيها القرون العديدة، لكن يبدو أنها تعود من جديد في الشرق العربي، ومن خلال نفس المفردات، الدولة الإسلامية، والخلافة، ومحاربة الكفار، والنصرة، ولكن بوجه طائفي بغيض، وكأن هذا الجزء من العالم لا يريد أن يتعلم من جامعة التاريخ أسباب طول العمر في حياة الدول، ويصر على عودة ابن خلدون وعصبيته إلى الأرض العربية. أخيرا، قد تنجح الجيوش في العراقوسوريا، في دحر جحافل المتطرفين، وقد لا تنجح، وقد تطول القلاقل والفتن، لكن سيكون التقدم إلى الأمام في التحديث والاختلاف والتعددية وعدم الانفراد بالحكم في العراقوسوريا وغيرهما، هو طريق النصر الأسرع ضد التطرف، وأعني بذلك دخول أطوار الدولة الحديثة، وتحقيق التنمية الاقتصادية، ورفع دخل الفرد، وتجفيف مناطق التوحش. لمزيد من مقالات ابراهيم النجار;