شهدت تونس مطلع هذا العام حدثا ثقافيا لافتا عندما صدر كتاب بعنوان «جدل الهوية والتاريخ «، يكرم مفكرها المؤرخ هشام جعيط صاحب المؤلفات الشهيرة عند قراء المشرق العربى وأوروبا « الفتنة :جدلية الدين والسياسة فى الإسلام المبكر « و «الكوفة :نشأة المدينة العربية الإسلامية» نهاية بثلاثيته فى السيرة النبوية . ومن قبل كرمته المغرب فعقدت ندوة نظمها قسم الفلسفة بإحدى جامعاتها وأصدرها مركز دراسات الوحدة العربية عام 2011 فى كتاب من بيروت بعنوان «التاريخ والتقدم :دراسات فى أعمال هشام جعيط». .................. هذا المؤرخ الذى انتقل إلى آفاق التفكير فى التاريخ الإسلامى بدأ نشر اسهاماته منذ منتصف الستينيات بالفرنسية والعربية ،وجرى ترجمة أعماله الى لغات عدة.وبدورها لم تتخلف النخبة المصرية عن الوعى بأهميته ، فأصدرت سلسلة «أوراق فلسفية» من القاهرة عام 2015 كتابا ضخما بعنوان :«هشام جعيط : الوعى الحضارى فى الفكر العربى المعاصر». و كتب مفكرنا حسن حنفى فى مقاله الافتتاحى بهذا الكتاب و بعدما ناقش كتاب جعيط « أوروبا والإسلام» قائلا :«تحية الى المؤرخ المفكر الذى استطاع تحويل التاريخ الى فكر والاستشراق الى رؤية ، والرؤية الى تحرير الذات من الصورة التى صنعها الآخر للسيطرة». هشام جعيط (82 سنة ) أصبح ولعقود عزيزا على الظهور فى المنتديات العامة ووسائل الإعلام،وحتى أن العديد من المثقفين بتونس هنا يعتبرونه قد انعزل وأغلق عليه بابه.وهذا مع أنه تولى لأربع سنوات بعد الثورة رئاسة المجمع التونسى للآداب والعلوم والفنون ( بيت الحكمة ) أرفع مؤسسة ثقافية فى البلاد . وفى هذا الحوار الذى أجرى فى منزله بضاحية المرسى شمالى العاصمة التونسية يعد اطلالة نادرة بندوة تكريميه بمناسبة حدث صدور الكتاب فى بلاده مطلع فبراير الحالى محاولة لاعادة النظر فى تراث هذا المفكر العلامة فى كتابة تاريخ الإسلام وفى طرح قضايا العرب والحداثة . وقد أبلغنا على هامش الحوار أن معهد العالم العربى بباريس اختار تكريمه بالجامعة التونسية إبريل المقبل وأنه يطمح فى أن يختتم رحلته الفكرية بكتاب جديد عن الفلسفة الألمانية . هناك من يرى أنكم قطعتم منذ مقالكم اللافت « تأسيس الغرب الإسلامى « عام 1973 مسافة من تبنى الاستشراق الى نقده مع الاستفادة من أدواته .. ما رأيكم ؟..وهل بالفعل تدركون ان رؤيتكم للاستشراق تطورت ؟.. وما الذى تغير فى نظرتكم للمستشرقين ؟ أنا تكونت علميا فى باريس اعتبارا من عام 1954 وكان عمرى حينها 18 سنة.لكن قبلها لم يكن عندى تكوين استشراقى . الأصل أنا من عائلة متدينة . الوالد شيخ زيتونى وعمى أصبح مفتيا للجمهورية ( الشيخ عبد العزيز جعيط) ،ودخلت الكتاب وحفظت القرآن. لكنى ذهبت الى المدرسة الصادقية بما تعنيه من تعليم حديث .ولكن فى باريس وكطالب أحضر للماجستير ، اخترت فى عام 1960 موضوعا من التاريخ الإسلامى . كتبت الماجستير عن كتاب فقهى فى الاقتصاد لقيروانى بعنوان ( أحكام السوق ) للفقيه أبو زكريا الأندلسى .وحينها تعرفت على ببلوغرافيا العالم الإسلامى وماكتبه المستشرقون . كما أننى درست الماجستير باشراف مؤرخ بتكوينه لكنه مختص فى الإسلام . وهو « كلود كاهان «. وتعرفت من خلاله على كتب استشراقية كثيرة وبلغات عديدة . وفى هذا الوقت لم يكن عندى نظرة نقدية للمستشرقين . كان اتجاهى الى دراسة تاريخ الاسلام منطقيا ،لأنى أعرف العربية جيدا بسبب مكتبة أبى التى نهلت منها وأنا صغير .كان رحمه الله يشترى لى الكتب وبعضها قادم من القاهرة وغيرها ،وقرأت السير لطه حسين و العقاد وغيرهما. وهكذا كان من المستبعد أن أدرس فى باريس تاريخ الرومان أو فرنسا فى العصور الوسطى.وهذا رغم معرفتى باللاتينية. و حقيقة أنا لا أتعرف على نفسى بين من ينتقدون الاستشراق والمستشرقين باعتبار أن كلهم فاسدون ومناوئون للإسلام . أبدا . أنا إلى الآن ليس عندى هذه النظرة.وعندما ألفت كتاب « أوروبا والإسلام « ( بالفرنسية 1977 وصدرت أولى ترجماته الى العربية 1995) فحصت نظرة أوروبا للعالم الإسلامى . تبين لى أن أوروبا من قديم الزمان كانت معادية للإسلام .وبالطبع حللت مواقف ايجابية تجاه الشرق كالرومانسية .وفى أحيان أخرى حللت مواقف احتقارية من مثقفين غربيين . وهنا أدخلت الى التحليل ما يمكن ان نطلق عليه « تخفى سيكولوجية الاستشراق « . وانتقدت هذه النظرة الى العالم الإسلامى نقدا ليس عدائيا . وهذا ما أسميه بالنقد المتوازن . وأعترفت بأن هناك مستشرقين كبارا درسوا عن كثب تاريخ الإسلام كماسينيون وفلهاوزن بينما انتقدت آخرين مثل بايكر ودانكن ماكدونالد . انتقدت مواقفهم العامة ولم أقم بدراسات متخصصة .كانوا متأثرين بالتفوق الغربى ويحتقرون الإسلام . لكنى انتهيت الآن للاستقرار على هذا النقد المتوازن. هل اطلعت على جهود واسهامات مؤرخين شباب فى تونس هنا تناولوا فى السنوات الأخيرة تاريخ الإسلام المبكر والوسيط كناجية الوريمى صاحبة كتابى «زعامة المرأة فى الإسلام المبكر» و «حفريات فى الخطاب الخلدونى» ؟ لا .. أنا كتبت عن المرأة فى الجاهلية من زاوية انثربولويجية تاريخية .أدخلت هذه الانثربولوجيا بعدما أخذتها من المدرسة الفرنسية .وهى انثربولوجيا لاتهتم بتاريخ الشعوب البدائية الآن .وهى تنصب على فترة تاريخية قديمة . أدخلتها الى الجامعة هنا ، وأصبح لهذه المدرسة تلاميذ. لكن العرب الحاليين سواء أكانوا مثقفين أم غير ذلك لايهتمون بالتاريخ .هم مهتمون أساسا بالفلسفة والعلوم السياسية و الاقتصادية وأمور تخص الحاضر . وفيما تعلق بالماضى فالاهتمام يتركز على الكلام والفلسفة العربية والإسلامية .عندكم فى مصر هناك من اعتبروا اننى من المدرسة «الفينومولوجية» (علم الظاهريات ) كالفيلسوف أدموند هوسرل. فالاهتمام بالتاريخ غائب . وكيف تقيم وأنت صاحب كتاب «الفتنة» كدراسة تاريخية موثقة كتبا عدة صدرت فى مصر وغيرها ومنذ ماقبل منتصف القرن العشرين عن حياة النبى محمد والإسلام فى عصوره المبكرة .. على سبيل المثال محمد حسين هيكل بهذا الاسم عام 1934 و عبقرية محمد للعقاد عام 1941 و فجر الإسلام لأحمد أمين عام و1929 وما تلاه «ضحى الإسلام» و «ظهر الإسلام » .. كيف تقيم هذه الأعمال ؟ هم أدباء كتبوا كتابات ذكية قديمة وتصلح للقراء الشباب والطلبة، ولكنها غير متعمقة . وبالطبع هناك مصريون حاليون كتبوا فى السيرة.و اعتقد ان الكتابات القديمة لعبت دورا فى زمانها، أما الدراسات الأحدث فهى نصف علمية، وتتركز أكثر على الدين . ولا أعتقد أن لها قيمة علمية . بين الحداثة و الهوية الإسلامية إلى ماذا ينتهى الانقسام بين الحداثة وبين الهوية الإسلامية ؟ كان الماضى عندنا مسكونا بالهوية الإسلامية أساسا .وهنا فى تونس و على خلاف المشرق حيث البعث والناصرية طرأ تيار صغير يعتمد الهوية العربية ويغلبها بدوره على الهوية الإسلامية . وفى الواقع المعيش طرأت مسألة الحداثة ووقع نوع من التضاد بينها وبين الفكرة الاسلامية التى عادت لتغلب الفكرة العربية . ثمة طموح الى حداثة منسوخة من أوروبا . وجرى طرح مشكلة الحداثة من الوجهة الواقعية باعتبار أن المجتمع مدنى قبل كل حساب وأن الحداثة يقوم بناؤها على التكنولوجيا والاقتصاد الحديث والمؤسسة الصناعية وانضباط المواطن نحو دولة القانون .لكن كل هذا تم طرحه من زاوية المثقفين بصفة متقطعة فى أغلب الوقت باعتبار الحداثة مضادة للدين وتعنى الخروج منه .ونفس الشيء بالنسبة للإسلاميين .هم إسلامهم شكلى يخص اللباس ( الملابس ) ووضع المرأة وأمور عتيقة مظهرية جدا . وليس عند الإسلاميين شيء يسمى التفكير العميق والإصلاح الدينى كما حدث مع جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ورشيد رضا . لا يوجد عندهم فكر . مع القوميين العرب بخصوص علاقتك بالمفكرين القوميين العرب ..وأنت طالما تذكر بأنك مفتون بميشيل عفلق ومحمد إقبال ..هل التقيت عفلق ؟ ذهبت الى بغداد كثيرا وعدة مرات فى عهد صدام حسين .وإنما استصغرت نفسى أن اطلب مقابلة شخصية مع ميشيل عفلق . أعتبرت أننى صغير بالنسبة اليه . وطبعا لا أقصد الفارق فى العمر . وأتذكر أنه أرسل لى شخصا قابلنى فى بيروت (أظنه مدير سابق لمجلة قضايا فكرية لا أتذكر اسمه) . .ونقل رسالة شفوية من الأستاذ ميشيل عفلق بأن كتابى «الشخصية العربية الإسلامية» جيد وانه ينصح بالتفكير فيما أكتب خاصة ما انتقدت فيه «البعث». لم ألتق به مطلقا ،وإن كان ظل يستقبلنى عند زياراتى السابقة لبغداد شخصية سورية تتولى القيادة القطرية فى البعث العراقى وكان مقربا من ميشيل عفلق. لكنى حضرت جنازته فى بغداد . لكن عفلق والقوميين بالمشرق يفصلون بين العروبة والإسلام ؟ أنا اعتبر أن الرسول محمد توجه تاريخيا الى العرب قبل كل حساب . والإسلام أصبح فيما بعد دينا عالميا وليس عربيا . لا يمكن القول إن محمدا نبى العرب. بل هو نبى عالمى .والإسلام أصبح دينا عالميا .صحيح سنظل نعتبر أن محمدا رمز للعرب، لكن القول إنه نبى قومى عربى أمر غير جائز بالنسبة لى . وهنا نقطة ثانية وهى أن ميشيل عفلق يصر على فكرة الحرية و الاشتراكية الإنسانية .وهذه نقاط أعجبتنى فى فكره .لكنى صرحت بأن حزبى البعث فى العراق وسوريا لم يطبقا أفكار عفلق .ماحدث فى البلدين دكتاتوريات . أنا درست كتاب عفلق «فى سبيل البعث» دراسة نظرية لكنى لا اتفق مع البعثين العراقى والسورى. لماذا نشرت أعمالك مترجمة إلى العربية فى المشرق العربى (تحديدا فى بيروت) وليس بتونس ؟ لأن تونس كانت مغلقة . أنا أعرف اذا نشرت كتابا هنا لن يخرج منها .وجمهورى هو القراء العرب وحتى المسلمون المتحدثون بالعربية . فى إيران ترجموا كتابى عن الكوفة الى الفارسية مثلا .وبعد القاهرة زمن طه حسين وقبل ثورة 1952 اصبحت بيروت هى عاصمة النشر العربى وإلى الآن. وبالطبع أنا أحب أن يطلع على اعمالى جمهور عربى واسع خصوصا انها، بموضوعاتها عن الفكر والتاريخ كل العرب والمسلمين ،وهذا باستثناء دراساتى عن المغرب العربى . كتبى بالعربية والفرنسية .وعلى الرغم من تشجيع بن على النشر هنا بتونس ، إلا أن الكتاب التونسى ظل والى مابعد الثورة التونسية لا يتجاوز حدود البلد . أبلغتنى بأنك تسعى للتأليف عن الفلسفة الألمانية .. لماذا هذا الاختيار فى هذا التوقيت ؟ أنا عمرى الآن 82 سنة . لم أعد استطيع الكتابة حتى للصحافة . لكن عندى طموح لأن اكتب عن الفلسفة التاريخية الألمانية ولو كتيبا صغيرا .كتابة تنطوى على قراءة لهيجل عن كثب . وهذا هو الفيلسوف الوحيد فى التاريخ بلاشك ،وإن كنت اعتبر أن تلميذه ماركس بدوره أيضا فيلسوف فى التاريخ بنظريته حول المادية التاريخية فقط . هى نظرية مهمة .وبالطبع هناك مفكرون مهمون فى التاريخ كتوينبى وشبلينجر . وقد قرأتهما وكتبت عن الأخير فى كتابى « أوروبا والإسلام» .لكنى لا أعتبرهما فلاسفة .هما أعطيا التاريخ نظرة إنسانية دون أسس فلسفية حقيقية . ولقد طلبت من تلميذة لى أن أتكلم عن الفلسفة الألمانية وتتولى التسجيل . أحقا .. لم تكرمك الجامعة التونسية من قبل ؟ جامعتى بتونس لم تكرمنى إلى الآن.لقد بدأت أساسا فى التأليف باللغة الفرنسية كتبا فكرية كالشخصية العربية والإسلام ..و المصير العربى ..وأوروبا والإسلام .وهذا علاوة على مقالات عن تاريخ إفريقيا (تونس القديمة). هى اسهامات فى ميدان الفكر حيث تناولت القضايا الوطنية والعربية والفلسفة الدين والمجمتع العربى وتناقضاته وأمور من هذا القبيل . وهذه الكتب حازت رواجا كبيرا فى فرنسا ولبنان وحتى فى مصر .لكن خاصة بفرنسا . وهو رواج لم يعتاده التونسيون ممن تمركزوا حول التخصص و كتبوا كتابات (سكولائية) مدرسية.والصحافة الفرنسية بما فيها « لوموند» تحدثت باطناب عما كتبت على نحو جعلهم يغارون . ولعل قليلا من أساتذة جيلى بالجامعة قرأوا ما كتبت .لكن السمعة التى أحاطت بى أدخلت نوعا من الغيرة . بل وربما أكثر .. عداوة .وهذا خصوصا أن بورقيبة أعجب بكتاب «الشخصية العربية الإسلامية» .كلمه الملك الحسن الثانى عاهل المغرب عنه عندما زار المغرب وعلمت أنه قال له :«أهنئكم بأن لديكم فيلسوفا فى عهدكم». وهكذا ثمة أمور تتعلق بالغيرة بين جيلى .لكن الجامعة التونسية ستكرمنى بطلب من معهد العالم العربى بباريس فى 18 إبريل 2018 .وهذا فى اطار مبادرة المعهد لتكريم مجموعة من المفكرين العرب . من قبل كرموا المغربى عبد الله العروى .وسيكرموا لاحقا المصريين رشدى راشد ( مؤرخ لعلم الرياضيات عند العرب والمسلمين) ومصطفى صفوان ( عالم متخصص فى علم النفس ) .
