هذه القبلة لأمك فى مركب شراعى نيلى جمعنا رحلة مشتركة مع جميلة بوحيرد اقترب منها المخرج فتحى سالم وقال لها بفرح: أمى أوصتنى أن أقابلك وأبلغك أنها تقبلك وأنها كامرأة مصرية فخورة بك للغاية كرمز لجيلها، وقتها فوجئنا بالسيدة الجميلة «بوحيرد» تقبل المخرج بأمومة حانية وتقول له هذه القبلة لأمك وقل لها جميلة تحبك وتقبلك. زينب فى حد ذاتها فيلم كبير ؛ مصرى واقعى ؛ يشهد على تحولات المجتمع عبر تفاصيل إنسانية ؛ مثل أفلام صلاح أبو سيف .. أنا أيضا لم اكن اعرف زينب حتى قابلتها فى قطار النوم ؛ اثناء سفرى للمشاركة فى مهرجان أسوان السينمائى الدولى . كانت شريكتى فى نفس الكابينة ( سريرها تحت سريرى ) وكان معها عدد كبير من الحقائب و البطاطين والاولاد الصغار .. وكانت منتقبة وترتدى عباءة سوداء ( ! ) . ........................ سألت نفسى كيف سنبيت معا فى هذه الكابينة الصغيرة ؛ ونتناول طعام العشاء و تمر علينا أكثر من 14 ساعة متواصلة (مدة السفر من محطة قطار الجيزة الى محطة قطار اسوان ) لو نظرت إليها كامرأة من اقصى قرى الصعيد ترتدى النقاب و نظرت هى لى كامرأة متفرنجة سافرة ؛ ترتدى الجينز و شعرها أصفر وتسافر وحدها ( ؟ ). كانت هى مع أولادها وزوجها ينام فى الكابينة المجاورة ؛ ويطمئن على حالها كل فترة ؛ ويناديها من خارج الكابينة بحرص ؛ و كأنما يريد ان يتأكد ؛ اننا لا نتشاجر او انها لم تخنقنى و أنا لم ادس لها السم فى كوب الشاى !! بدا اجتماعنا مقلقا .. لكن الذى دار بيننا ؛ كان على العكس تماما . انفتح ببساطة باب الحوار ؛ وابديت بتعمد تعاطفا كبيرا مع مهامها كأم و تعبها مع الأولاد الصغار ؛ واحمالهم وحقائبهم اثناء السفر بالذات . وكانت زينب سيدة صعيدية اللهجة بشكل مميز للغاية ؛ وحين خلعت النقاب بدت صغيرة السن وذات وجه صاف جميل ؛ والشهادة لله ظهر بعد وقت قصير كم هى لطيفة و طيبة ولها شخصية قوية رغم انها لم تكن متعلمة . والحمد لله .. صار ( الاستلطاف ) متبادلا .. وتعاطفت هى بدورها مع سفرى الطويل بسبب العمل . تحدثنا عن الاسعار و طهى الطعام و الجيران وتربية الاطفال وأعباء الحياة و الزواج وعادات الصعيد الجوانى.. و حتى تربية الطيور والبط و برامج ومسلسلات التليفزيون الفاشلة التى يتجنب كلانا متابعتها ؛ وجدنا فيها ما نتفق عليه ويثير ضحكنا معا !! مضى الوقت مثمرا ؛ خاصة مع وجود أطفال؛ خفيفى الظل ؛ لا يكفون عن اللعب والحركة.. لم ننم طويلا واندمجنا فى تكملة الكلام و نحن نشرب عصير الجوافة الطبيعى الذى كانت زينب قد أعدته بيديها واحضرته معها فى زجاجات كبيرة للتوفير . كان العصير لذيذا ؛ لكنها كانت قلقة معظم الوقت .. تنعى هم وصولها لقريتها ؛ والطلبات المتلاحقة التى تنتظرها هناك . قالت زينب انها تزوجت فى عامها الثالث عشر ؛ قبل ان تشبع من لعب الشارع ؛ وان زوجها رجل كريم لا يؤخر شيئا عن بيته ؛ لكن طبعه شديد وهو السبب فى ارتدائها النقاب . سألتها : يعنى إن كان عليك .. كنت تتمنى الا ترتدى النقاب ؟ أجابت بحرقة : ان كان عليا انا .. كنت اتمنى ماكنش ست من أصله ! - قلت : يا ساتر .. ليه كده ؟ - قالت : من الظلم اللى بشوفه حواليا .. فيه ناس كتيرة غلبانة ومظلومة عندنا فى الصعيد .. كنت أتمنى أكون راجل عشان أمسك البندقية و أطخ الظلمة كلهم .. فيه ناس ماحيلتهاش حاجة و مش قادرة تعيش ولا تدافع عن نفسها .. والناس دى هى اللى بيشيلوها الطين فوق راسها . . كنت أتمنى اكون راجل لأجل آخد لهم حقهم واحميهم . قالتها زينب بلهجة صعيدية جادة حاسمة ؛ ليس بها أى مساحة للجدال او المزاح .. فأبديت صمتا دون تعليق .. وانتهت الرحلة وقد إستقر فى قلبى احتراما كبيرا لتلك السيدة المكافحة القوية . بيت على النيل ! اما غالية فهى شابة جامعية سمراء؛ جميلة القسمات ممشوقة القوام ؛ فى كلية التربية الرياضية جامعة أسوان .. مخطوبة لشاب تحبه وتستعد للزواج قريبا . عرفتها بسبب مصادفة جعلتنى أترك الفندق السياحى الضخم الفخم الذى كنت اقيم به فى اسوان - اثناء ايام مهرجان أسوان لسينما المرأة - وأبحر فى النيل نحو الغرب حيث الجزيرة التى يقيم فوقها اهل النوبة . أسرة غالية (ناس طيبين ) مثل معظم اهل النوبة الذين اشتهروا باستضافة الغرباء واكرام السياح الاجانب بلا مقابل .. لكنهم فى السنوات الاخيرة مع غلاء المعيشة وضعف حركة السياحة فترات متعاقبة وطويلة ؛ أصبحوا يأجرون غرفا من بيتهم للاغراب والسياح ؛ بنصف ثمن الاقامة بالفندق ! اسرة غالية فيها عدد من البنات فى سن التعليم والزواج ولهن إحتياجات ومصاريف كثيرة . أعجبتنى فكرة أن أجرب السكن مثل بعض السياح ؛ فى بيت نوبى ملون هادئ ؛ كما اعجبتنى الغرفة الواسعة النظيفة التى استأجرتها من بيتهم ؛ وكانت تطل تماما على النيل ؛ وترى مشهدا واسعا رائعا للمراكب الشراعية المبحرة فوق المياه والراسية عند الشاطئ . من الصباح الباكر كنت استمتع برؤية الشمس والماء وشرب الشاى فى شرفة الغرفة الواسعة ؛ وفى نهاية الليل كانت صفحة الماء تعكس اضواء فضية وبراقة كثيرة؛ وكنت بسهولة أسمع الموسيقى العالية القادمة من فندق ( اولد كتاراكت) الشهير ؛ المواجه تماما لنا . افضل امكانيات غرفتى ؛ كان الافطار الذى تقدمه لى الست ام غالية بيديها؛ ثم الحوارات التى كنا نتبادلها بود اثناء الطعام او قبله . عرفت منهم أشياء كثيرة عن عاداتهم الراسخة فى الزواج و طبيعة حياتهم؛ وكفاحهم المستمر للتحايل على المعايش بعد أن جف مؤخرا دخلهم من التجارة والسياحة . لكن اكثر الاشياء غرابة واثارة؛ كان ما سمعته من غالية ؛ وهى تتحدث بصدق وحماس عن خطتها ؛ لتعليم اولادها فى البيت؛ عبر برامج النت؛ ومنعهم من الذهاب إلى المدارس؛ التى صارت غير قادرة على تعليم أى أحد ؛ وصار الاطفال يتخرجون منها اكثر جهلا و اقل ذكاء من مستواهم قبل دخولها !! عند غالية مشاريع جريئة وجديدة لمكافحة مشاكل وتحديات حياتها فى النوبة. لقد أنشأت صفحة على الفيس بوك للدعاية ونشر تقييم السياح أوالضيوف لمستوى الغرف التى يأجرونها من بيتهم . غالية واخواتها البنات لهن ابتسامات طيبة و جميلة ؛ لاحظت إنهن يحترمن العادات والتقاليد المحافظة والمتوارثة بكل حب واقتناع ؛ لكنهن وقت اللزوم لا يعدمن وسيلة لتنفيذ ما يردن فعله ؛ لتحسين الحياة او مقاومة فسادها . حليمة على الجانب الآخر من النهر؛ كان نشاط مهرجان اسوان السينمائى الدولى ؛ مزدهرا ؛ ويحقق نجاحا ملموسا .. الندوات وورش العمل السينمائى كانت مثار إهتمام ومصدر سعادة للمشاركين من شباب أسوان ومن ضيوف المهرجان ..وكذلك الحال فى قاعات عرض الافلام العربية والاجنبية . إحتفى المهرجان واستضاف المناضلة الجزائرية الاكثر شهرة فى العالم (جميلة بو حيرد) . و معظم الافلام كان مركز إهتمامها حقوق المرأة وحريتها ونضالها فى مواجهة الظلم أو التمييز ضدها ؛ أوتضييع حقها فى الحب والقبول والنجاح داخل مجتمعها . حليمة بطلة فيلم روسى ؛ يحكى عن فتاة محجبة فى مجتمع شاب منفتح ؛متحرر ؛ يندهش من شكل غطاء شعرها وارتدائها المايوه الاسلامى المقفل بالكامل فى تدريبات السباحة الطلابية المشتركة ، فيسخر منها زملاؤها و تعيش حليمة منعزلة لفترة ؛ حتى تستطيع أخيرا أن تثبت جدارتها وتحظى بالحب والقبول والاحترام ممن حولها . الفيلم قدمته المخرجة الشابة ( يوليا زاخاروفا) ؛ وهى فى الوقت نفسه كاتبة سيناريو واستاذة بمعهد كازان للثقافة ؛ فازت فى العديد من المسابقات والمهرجانات السينمائية ؛ ونالت جوائز مهمة؛ جاءت ( زاخاروفا ) من جمهورية تتارستان الى مدينة أسوان بفيلمها حليمة (الذى تم انتاجه عام 2017) وعادت مبتهجة موفورة الحظ من إهتمام النقاد والمشاركين المصريين والاجانب . وفى تصريح خاص للاهرام قالت انها رأت فى هذه الرحلة ؛ اشياء جديدة لم تكن تعرفها عن مصر ولا عن النساء فيها؛ وان أسوان مكان رائع لاقامة مهرجان سنيمائى ؛فالبرغم انها امرأة شقراء وترتدى ملابس صيفية خفيفة ؛ كانت تتحرك بحرية وأمان فى الاسواق الشعبية وفى كل مكان ذهبت اليه ؛ ولم تجد من الناس حولها غير الترحاب والابتسامات الصافية وكل التقدير . مهرجان اسوان السينمائى هذا العام ؛ كان ( درسا خصوصيا ) فى قبول الآخر ! السينما تمتعنا وتعلمنا وتجعل حياتنا أكثر انسانية وبهجة ؛ لأنها تناصر الانسان فى أى مكان ؛ ولا تضيع دور البطولة من احد ولا تستبعد من دائرة الضوء احدا ، بسبب أسمه او لونه او بعد مكانه أو ضعف الامكانات المتاحة أمامه . تحيا الستات .. تحيا السينما .. تحيا أسوان الجميلة حبيبة النيل العظيم .