لا يخفى على أحد أن الأوضاع الاقتصادية في بلادنا حاليا ليست على ما يُرام. وقبل استهلال الشهر الكريم بدأ الحديث عن الاستعداد لرمضان.. فهذه خطة للمرور. وتلك لتوفير السلع، وثالثة لزيادة المعروض من البنزين والسولار وأسطوانات الغاز، ورابعة لمواجهة زيادة استهلاك الكهرباء..إلخ. ولا بأس بذلك كله، لكن مع مراعاة روح "الجود" التي يجمع أن تعم الأمة كثقافة شعبية في هذا الشهر الكريم، كي نعيش سعداء، وبدون مشكلات الحرمان والفقر. فقد ورد في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة" .(رواه البخاري). لقد كان -صلى الله عليه وسلم- جواداً في سائر حياته، حتى إنه كان إذا سُئل ثيابا تخصه أعطاها للسائل. ففي حديث سهل بن سعد، قال: إن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة قال وما البردة قال الشملة قالت يا رسول الله نسجت هذه بيدي لأكسوكها فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها فخرج علينا فيها، وإنها لإزاره فجاء فلان بن فلان (رجل سماه يومئذ) فقال: يا رسول الله ما أحسن هذه البردة اكسنيها، قال نعم فلما دخل طواها وأرسل بها إليه فقال له القوم: والله ما أحسنت كُسيها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها ثم سألته إياها وقد علمت أنه لا يرد سائلا؟ فقال: إني والله ما سألته إياها لألبسها ولكن سألته إياها لتكون كفني فقال سهل: فكانت كفنه يوم مات. وانظر إلى التعبير :"كان أجود ما يكون في رمضان".. فالجود معنى شامل لسائر أنواع العطاء: جود: الوقت، والجهد، والمال، والرعاية، والاهتمام... إلخ. وقد عمق صلى الله عليه وسلم من هذا المفهوم في نفوس أصحابه، بقوله في الأحاديث :"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا".(متفق عليه). وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال :"أنفق يا ابن ادم أنفق عليك". (متفق عليه). فالله تعالى يخلف بالخير عندما ننفق في سبيله.. قال تعالى :"قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ".(سبأ : 39). رمضان مشروع حضاري لبناء الأمة، وتقديم الحلول لأزماتها: رمضان شهر الجد والاجتهاد لا الخمول والكسل .. فعن السيدة عائشة رضي الله عنها "قالت : كَانَ رسولُ اللهِ يَجْتَهِدُ في رَمَضَانَ مَا لاَ يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ ، وَفِي العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْهُ مَا لا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ". (رواه مسلم). وفي رواية قالت :"كَانَ رسول الله إِذَا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ، أحْيَا اللَّيْلَ، وَأيْقَظَ أهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئزَرَ(أي: اعتزل النساء).(متفق عليه). ولقد غزا رسول الله -صلى الله عليه وسلم ستُّ غزوات في تسع سنين، كلها كانت في شهر رمضان. والآن نتذكر، ونحن في ظروف حضارية لا تكاد تُوجد فيها إنجازات تُذكر للأمة، نستذكر أن رمضان كان دوما: شهر الفتوحات، والانتصارات، والإنجازات الكبرى. فقد حدثت أهم معارك المسلمين في رمضان، فبدر الكبرى، وهي أول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت في رمضان، وفتح مكة أيضا كان في رمضان، وآخر غزواته (تبوك) كانت في رمضان. وأعماله الجِسام مثل هدم مسجد الضرار، وأصنام العرب (في فتح مكة) كانت أيضا في رمضان. وأول رمضان صامه المسلمون بدأ يوم الأحد 1 رمضان 2ه الموافق 26 فبراير 624م. وفي 17 منه وقعت غزوة بدر الكبرى بين المسلمين والمشركين. وفي 20 رمضان سنة 8 للهجرة تم فتح مكة، وفي رمضان سنة 9 هجرية وقعت غزوة تبوك، وفي رمضان 14 للهجرة حدثت معركة القادسية بين والفرس والمسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص. وفي الأول من شهر رمضان عام 20ه الموافق 13 أغسطس 641م، وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حاصر عمرو بن العاص حصن بابليون، بعد أن اكتسح في طريقه جنودَ الروم، وتم الفتح الإسلامي لمصر في غضون العام التالي: 21هجريا. وفي رمضان سنة 53 للهجرة فتح المسلمون جزيرة رودس، وفي 1 رمضان سنة 91ه الموافق 710م نزل المسلمون إلى الشاطئ الجنوبي لبلاد الأندلس، وغزوا بعض الثغور الجنوبية، وبدأ فتح الأندلس. وفي رمضان سنة 92 للهجرة انتصر المسلمون في الأندلس على القوط. وفي رمضان سنة 584 للهجرة حقق الناصر صلاح الدين الايوبي انتصارات عدة على الصليبيين، وفي رمضان سنة 658 للهجرة انتصر المسلمون على المغول في عين جالوت. وفي 10رمضان 1393 للهجرة عبرت القوات المصرية قناة السويس، واجتازت خط بارليف الإسرائيلي، وتحقق أعظم انتصار للأمة في العصر الحديث على الصهاينة واليهود. تحقيق الربانية والتقوى في رمضان مفاتيح للسعادة: هذا بيت القصيد : ماذا بعد رمضان ؟ والإجابة: "كن: تقيا ربانيا، ولا تكن رمضانياً".. فبئس القوم قوم -كما قيل- لا يعرفون الله إلا في رمضان.. فرمضان وسيلة للتقوى، وليس غاية في حد ذاته. قال تعالى :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون". (البقرة:183). ورمضان وسيلة أيضا لتحقيق الربانية. قال سبحانه :"مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ". (آل عمران: 79). والرباني -كما قيل- هو العالم العامل. ومن معاني الربانيين أنهم : حكماء علماء حلماء. [email protected]