كان الهدوء يلف »الاسماعيلية« بعد أن اغتسل وجهها بقطرات الندى فى ذلك الصباح المبكر من اليوم الخامس والعشرين من يناير 1952.. وكانت الحركة قليلة بطيئة فى المدينة الصغيرة المحدودة التى انقسمت إلى قسمين: الأفرنجى الذى يضم فيلات ومبان جميلة يسكنها رئيس وأعضاء مجلس إدارة شركة قناة السويس والعاملون الأجانب فيها والمرشدون البحريون.. والقسم العربى الذى يضم أولاد البلد من المصريين.. وفى جانب من المدينة كان مقر الشرطة أي: البوليس بتسمية ذلك الزمان وبداخل المبنى المكون من طابقين ستون جنديا من بلوكات النظام جاء معظمهم من الصعيد ونسبة من قرى الدلتا. وكانوا فى معظمهم بالكاد يفكون الخط، ويتسلحون ببنادق «لى أنفيلد» الانجليزية الصنع.. التى لا تطلق سوى رصاصة واحدة ثم يفتح الجندى خزانة البندقية ليضع غيرها ثم يطلقها.. وهكذا.. ! ومع تلك القوة المحدودة كان ضابطان فقط. فإن قائد القوة كان فى مأمورية عمل بالقاهرة.. كما أن الضابط النقيب صلاح ذو الفقار الفنان فيما بعد كان قد سافر قبل أيام للالتحاق بدورة تدريبية فى كلية الشرطة (البوليس). أما الضابطان الموجودان فهما: النقيب مصطفى رفعت الذى كان يتولى القيادة بالإنابة.. والملازم أول مجدى عبد المسيح، وكان الاثنان فى الطابق الأول الذى توجد به المكاتب وغرفة التليفون.. وفى ذلك الصباح المبكر.. وعندما تحرك عقربا الساعة ليصنعا خطا رأسيا مستقيما وما أن ارتكز العقرب الصغير على الرقم (6) والكبير على الرقم (12) حتى شق الهدوء أصوات حركة سيارات تقترب وتحاصر المبنى الأمني.. وسارع من به إلى النوافذ لاستطلاع الأمر ففوجئوا بقوة عسكرية انجليزية مكونة من مدرعات وعربات تحمل جنودا يصوبون أسلحتهم الحديثة إلى المبنى وفى المقدمة عربة الجنرال »إكسهام« قائد القوات البريطانية فى منطقة القناة وكان مقر القيادة فى الاسماعيلية وعبر بوق مكبر صوت تحدث أحد مرافقى الجنرال معلنا الأمر بأن على أفراد القوة الموجودين بمقر الأمن: الاستسلام ومغادرة المبنى بغير سلاح رافعين أيديهم. ونظر مصطفى رفعت إلى مجدى عبد المسيح: »ما رأيك«.. وعلى الفور جاء رد عبد المسيح: مش ممكن.. لن نستسلم« وصعد الاثنان إلى الطابق العلوى ليجدوا الجنود ثائرين وقبل أن يسألهم قالوا جميعا: »لا يا فندم.. لا يمكن أن نستسلم.. وسقطت دانة مدفع على الغرفة فهدمتها ومزقت أسلاك ومعدات التليفونات ولكن مصطفى والجندى أفلتا من الدمار. واستمرت المعركة غير المتكافئة إلى أن طلب الجنرال «إكسهام» أن يتحدث مع قائد القوة. ونزل مصطفى رفعت. وبادره الجنرال بقوله إنه يشيد بجسارة القوة ويوجه إليهم باعتباره قائدا عسكريا التحية: وشكره مصطفى وسأله الجنرال عن طلباته للانسحاب. وقال النقيب مصطفى أنه يريد سيارات لنقل الشهداء واخلاء الجرحى وليستقلها الأفراد على أن يخرجوا بأسلحتهم ومتعلقاتهم رافعين علم مصر ومرفوعى الرأس. ووافق إكسهام. وعندما خرج الرجال أدى لهم الجنرال التحية. وكانت تلك الواقعة حديث العالم وقتها وتناقلتها وكالات الأنباء ونشر »الأهرام« فى صفحته الأولى خبرا عن النقيب مصطفى رفعت بطل معركة الاسماعيلية. وكانت تلك المعركة بداية لتحركات كبري.. وكانت سببا فى اختيار اليوم عيدا للشرطة.. لذلك نترحم على أرواح هؤلاء الرجال الأبطال.. لكن أليس غريبا أن اسم مصطفى رفعت وكذلك مجدى عبد المسيح لا يحملهما شارع فى الإسماعيلية أو فى القاهرة؟ أو ألا يستحقان اطلاق اسميهما على شارعين أو ميدانين فى الإسماعيلية الجديدة.. مع تكريمهما وأن تصدر وزارة الداخلية كتابا يسجل الواقعة؟ إن الشرطة تتولى مسئولية غاية فى الأهمية لتأمين الإنسان والمكان.. وهى مع القوات المسلحة الباسلة تمثلان درع الوطن وسيفه.. ومهما قيل عن الشرطة فإنها تضم رجالا شرفاء.. لمزيد من مقالات محمود مراد