من أهم ما يخرج به قارئ مسرحية «بيت الدُمية»، التى ألفها الكاتب المسرحى الدنماركى هنريك أبسن فى عام 1879، أن ذلك البيت الهادئ المظهر المنضبط الهانئ السعيد لمدير البنك تورفالد هيلمر لم يكن فى حقيقته سوى بيت هش متداعٍ، تعانى فيه الزوجة «نورا» الإحباط والتهميش وكبت المشاعر الحقيقية، لتكتشف فى نهاية المطاف أنها مجرد دمية يعتبرها الزوج «أرنبته اللطيفة» .. ومن ثم كان انفجارها وتمردها، فتركت البيت صافقة الباب خلفها فى عنف ولسان حالها يصرخ: لا.. لا يمكن أن يستمر الأمر هكذا حتى لو انهار البيت على رأس من فيه ! قل لي: هل راودك وأنت تقرأ كتاب الصحفى الأمريكى مايكل وولف الذى صدر قبل أيام وحمل عنوان «نار وغضب فى بيت ترامب الأبيض» هذا الإحساس نفسه الذى أحست به نورا؟ هل شعرت بأنك أمام بيت يتهاوى لأنه مملوء بالشقوق والصراعات والتصدعات ويأكل كل من فيه بعضهم بعضًا؟ والأهم: هل سيطر عليك سؤال حائر يقول: أهذه هى أمريكا التى تملك العالم كله بين أصابعها وتحدد بإشارة من يدها مصائر شعوب وأقوام ودول بكاملها؟ واقع الحال أن ما قرأناه فى كتاب وولف (وهو قليل من كثير مازال مخبوءا تحت الرماد الملتهب) يشى بأننا أمام صراعات لا أول لها ولا آخر بين ساكنى البيت، وأن رب البيت «السيد ترامب» محتاس حائر وغير قادر على اختيار رجاله ومشغول أكثر بكتابة تغريداته على تويتر، كما أن ابنته الجميلة إيفانكا وزوجها الغندور جاريد يمثلان قنبلة موقوتة قد تنفجر فى وجه الرجل الكبير فى أى لحظة. المتابعون للسياسة الأمريكية طوال تاريخها يعرفون جيدًا أن البيت الحاكم فى واشنطن دائمًا ما كان يعج بالصراعات وتضارب المصالح بين ساكنيه، إلا أنه لم يحدث أن ظهرت هذه المشاكسات الفضائحية إلى العلن كما هو حادث الآن، خاصة أن ترامب بالكاد أكمل عامه الأول فى المكتب البيضاوي، وهو الأمر الذى دفع المراقبين إلى التساؤل فى دهشة: ما الذى يجرى فى أمريكا بالضبط؟ هل يمكن للمراقب مثلًا أن يغامر فيخلص إلى نتيجة تقول بأن الفكرة الأخلاقية الأساسية التى بُنيت عليها الامبراطورية الأمريكية منذ تأسيسها على أيدى مهاجرين حالمين بوطن جديد جميل عادل تتعرض الآن لخطر جسيم، وأن ما يجرى بالبيت الحاكم فى العاصمة واشنطن دى سى ما هو إلا الجزء الظاهر فقط من جبل الثلج الذى يهدد العملاقة «تايتانيك»؟ (كما رأينا فى فيلم جيمس كاميرون؟). إن من البدهيات المعروفة لدارسى التاريخ كافة أن الامبراطوريات الكبرى بدأت طريق أفولها وتوقفت عن إيناعها الحضارى والإنسانى عندما أخذت تفقد قوتها الناعمة المتمثلة فى مبادئها الأخلاقية على الرغم مما كانت تغص به مخازن أسلحتها من سلاح ومن آلات الحرب الفتاكة. أمريكا فى أذهان العالم - أو هكذا ظلت تروّج- هى بلد المساواة والديمقراطية والتسامح وقبول الآخر بصرف النظر عن لونه أو جنسه أو أصله. ولو أننا عدنا إلى الشعار المكتوب فوق قاعدة تمثال الحرية فى نيويورك لقرأنا تلك العبارة «أعطونا الضعفاء.. أعطونا المهاجرين.. أعطونا المحتاجين للعطف.. وسوف نرحب بهم»، فهل هذا ما تنبئنا به كلمات ترامب عندما وصف البلدان المصدرة للمهاجرين بأنها حُثالة؟ أو عندما وقف فرفع عقيرته مناديًا بأن أمريكا من الآن فصاعدًا سوف تكون للأمريكان فقط؟ وأيضًا.. هل يمكن للمراقب أن يتجاهل ما باتت تمتلئ به صحف أمريكا ووسائل إعلامها الحر عن مئات حالات التحرش التى ارتكبها عِلية القوم عندهم، ومن بينهم منتجون فى هوليوود راودوا الممثلات الشهيرات عن أنفسهن لمنحهن أدوارًا على الشاشة؟ ثم كيف لمراقب ما أن يتغاضى عن الغضبة الشعواء ضد ترامب من جانب نجوم وأساطين عاصمة السينما العالمية، ومن كبار الإعلاميين، بل ومن بعض زملائه من رجال الأعمال المتنفذين الذين نقل الكتاب المثير شهاداتهم؟ وبطبيعة الحال، فإن البيت الأبيض (بيت الرئاسة) ليس هو الوحيد صانع السياسات فى الولاياتالمتحدة، فأمريكا دولة مؤسسات، وثمة توازن دقيق جدا بين تلك المؤسسات، وبالتالى فإن من المتوقع أن هذا الخلل الحادث الآن سوف يسعى المجتمع إلى ضبطه حتى لو اضطر الأمريكان إلى التخلى عن رئيسهم والتضحية بالجنين كى تعيش الأم، (ألم يسبق أن فعلوها مع نيكسون؟). ورغم هذا فإن شرر النار والغضب (الذى جعله مايكل وولف عنوانًا لكتابه) سوف يترك من الجروح والندبات ما لن ينساه المواطن الأمريكى بسهولة. وبالفعل فقد خرجت دراسات عدة تحذر من أن أمريكا مع ترامب بدأت تفقد روحها، وفى هذا الصدد يستشهد مؤلف الكتاب بكلمات قالها أحد مسئولى البيت الأبيض : «لقد أصبحنا مثل فصل من التلاميذ المشاغبين.. والضحك على أشده فى الصفوف الخلفية».. فهل بهؤلاء المشاغبين يمكن أن تستمر أمريكا فى قيادة العالم؟ فى تاريخ الأدب العالمي، معروف أن نورا بطلة بيت الدمية- عندما غادرت بيت زوجها وصفقت الباب خلفها بعنف فإنها هزّت أوروبا كلها، وشكلت مسرحية أبسن الشهيرة فصلًا جديدًا فى نظرة الأوروبيين إلى المرأة فى المجتمع، كما وجهت طعنة نجلاء للنظرة الذكورية المتعالية للرجال إزاء النساء، بل ويذهب البعض إلى أن المسرحية كانت إيذانا ببدء الحركة الثورية النسوية العالمية (المعروفة باسم الفيمينيزم).. فهل سيكون ما يجرى الآن بالبيت الأبيض بمنزلة هزة مماثلة للهزة التى أحدثتها نورا التى رفضت أن تبقى دمية فى يد زوجها (الذى كان بالمناسبة رجل أعمال مثل ترامب)؟.. لننتظر ونر! لمزيد من مقالات ◀ سمير الشحات