بمناسبة الاحتفاء بمرور مائة عام على مولد جمال عبد الناصر صاحب تنظيم الضباط الأحرار الذى قام بالثورة على الحكم الملكى فى مصر وأحدث تغييرات جذرية فى المجتمع لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال القضاء على الاستغلال وسيطرة رأس المال على الحكم، قد يكون من المناسب بيان أن الثورة لم تكن عملية مزاجية أو شخصية كما يعتقد خصوم عبد الناصر، وإنما كانت أمرا حتميا فى ضوء الأوضاع التى كانت قائمة فى مصر، وذلك بشهادة مراقبين إنجليز وأمريكان كانوا يقرأون الواقع فى مصر. ...................................................................................... فى هذا الخصوص هناك وثيقتان أمريكيتان تؤكد ان سوء الأحوال فى مصر قبل الثورة: الأولى بتاريخ 7 يناير عام 1949، وهى عبارة عن تقرير سرى من هولمز Holmes القائم بأعمال السفير الأمريكى فى لندن لوزير الخارجية الأمريكى وعنوانه: «مصر فى ثورة Egypt in Revolution»، وهو عبارة عن فحوى محادثة تمت بين هولمز ومسئول بريطانى فى وزارة الخارجية البريطانية يتعامل مباشرة مع الشئون المصرية قال له باكتئاب عميق «.. يبدو من ظاهر الأحداث التى تسير من سيئ إلى أسوأ أن مصر مقبلة على ثورة لا يمكن تحاشيها ..». وبدلا من أن يبذل المسئولون جهودهم لعلاج تلك المشكلات فإنهم يتطاحنون حول كرسى الحكم ولا يلتفتون إلى تيار الغضب والجوع واليأس الذى يدفع الناس إلى السخط وعدم الرضا، وحتى الملك فاروق نفسه الرجل الشاب يبدو متفقا مع ملاك الأراضى الرجعيين وأصحاب الاستثمارات. والصراع الآن واضح بين الذين يملكون والذين لا يملكون. واختتم المسئول البريطانى قوله «بأن التوقعات المستقبلية فى مصر زفت grim». أما الوثيقة الثانية فإنها صادرة من البيت الأبيض فى أمريكا بتاريخ 12 ديسمبر عام 1951 (سرى للغاية) عبارة عن خلاصة لمناقشات تمت بين رؤساء عدة إدارات مسئولة ضمت 12 عسكريا وعشر شخصيات مدنية. والقسم الخاص بالمناقشات التى دارت عن الحالة فى مصر يقع فى أربع صفحات (ص 10-13). وفى هذا القسم قال بيرتون بيرى Burton Berry مساعد وزير الخارجية الأمريكية إنه عاد أخيرا من زيارة لمصر حيث تبين له أن المشكلة ليست مشكلة وضع إنجلترا فى مصر، بل إن المشكلة لها أبعاد أخرى متداخلة فى مقدمتها أن سكان مصر زادوا بنسبة 25% فى عشرة سنوات وهى زيادة لم تصحبها زيادة فى مساحة الأراضى المزروعة، فضلا عن سوء توزيع الثروة، ذلك أن نصف الأراضى مملوكة لنصف فى المائة (0٫5%) من الأفراد. وهناك أيضا مظاهر لسوء توزيع الثروة فى المدن من حيث ملكية الشركات والعقارات، ويضاف إلى ذلك مشكلات التعليم والنسبة العالية للأمية والجهل المتفشى الذى لا يمكن تخيله. كما أشار بيرتون إلى عامل آخر لانتشار الفوضى وسوء الأوضاع فى مصر كما لاحظها، ألا وهو وجود حزب الوفد فى الحكم الذى وصفه بأنه أكثر الأحزاب فسادا التى تولت الحكم فى الفترة الأخيرة، ولم يعد هناك أحد يثق فى الحكومة ولا فى وعودها التى لم تحقق منها شيئا. والحال كذلك قد يكون من المناسب أن نعرض فى إيجاز للأحوال المادية التى استند إليها كل من التقريرين. فلقد اتسم الموقف السياسى فى مصر بعد حرب فلسطين فى مايو عام 1948 بعدم الاستقرار، ففى خلال أربع سنوات من الحرب حتى قيام الثورة فى 23 يوليو عام 1952 بلغ عدد الوزارات التى توالت على الحكم ثمانى وازداد الانشقاق داخل صفوف الأحزاب السياسية حيث تكونت مجموعة راديكالية داخل الوفد شكلت تجمعا باسم الطليعة الوفدية، وخرجت من الحزب الوطنى مجموعة بقيادة فتحى رضوان باسم «الحزب الوطنى الجديد» فى عام (1949)، وقام احمد حسين بتغيير اسم جمعية مصر الفتاة إلى الحزب الاشتراكى فى عام (1949) وكان قد غير اسمها من قبل إلى الحزب الوطنى الإسلامى فى عام 1940. وزادت انقسامات الحركة الشيوعية على نفسها بين تيارات مختلفة من ماركسية أصولية ولينينية وستالينية وتروتسكية .. الخ. وقد انعكست جميع تلك الانقسامات على كل الطبقات الاجتماعية فى مصر وأخذ الاستقطاب مجراه، كل فريق يحاول أن ينفذ إلى وجدان أكبر قطاع ممكن من الجماهير. وعلى هذا تشكل تراث من الانتهازية والتبعية أكدت عليه دوما أساليب الحكومات الحزبية وغير الحزبية فى سعيها لاستقطاب الجماهير حين تلجأ إلى الاستثناءات والمحسوبية واعتقال الخصوم. وفى هذا المناخ من عدم الاستقرار السياسى والصراع على كرسى السلطة انصرفت الحكومات عن علاج المشكلات الاجتماعية التى كانت قد أخذت تتفاقم يوما بعد يوم بفعل زيادة السكان وتركز الثروة وضيق فرص العمل. كما أدى إقبال كبار الملاك على زيادة مساحة ما يملكون من أراض إلى ارتفاع قيمة الإيجار فوق طاقة المستأجر الصغير. ولأن السلطة التشريعية والتنفيذية فى يد تلك الصفوة الاجتماعية فلم يكن من الممكن أن تتصرف إلا بما يضمن مصالحها وضد مصالح الآخرين. وفى هذا الخصوص تجدر الإشارة إلى أن الدكتور احمد حسين وزير الشئون الاجتماعية فى حكومة الوفد تقدم بمشروع قانون فى أغسطس عام 1951 عرف «بقانون الإقطاعات»، وكان يقضى بأن يقوم كبار ملاك الأراضى فى كل قرية بتوصيل المياه النظيفة، وإمداد الفلاحين بالسماد والوقود، وتوفير مسجد لإقامة الصلاة، وناد لتجمع أهالى القرية، وتخصيص أماكن للمواشى بعيدة عن سكن الفلاحين، وتخصيص قطعة أرض مجانا لكل عامل زراعة يزرع فيها ما يحتاجه من خضراوات. وإذا ما رفض ملاك الأراضى القيام بهذه المشروعات تتولى الحكومة تنفيذ القانون وتحميل الملاك كل النفقات، فاعترض وزير الزراعة (عبد اللطيف محمود) على المشروع واصفا احمد حسين بأنه «وزير أحمر» (أى شيوعي) فما كان من أحمد حسين إلا أن رد عليه قائلا «مفيش حد أحمر منك» (أى غبي)، وتقدم باستقالته. والحال كذلك كان من الطبيعى أن تتفاقم الأزمات السياسية إذ اندلعت مظاهرات الاحتجاج تطالب بتحسين الرواتب، وتقدمت شخصيات سياسية بمذكرة إلى الملك فاروق فى (18/10/1950) تندد فيها بالفساد وتطالبه بتطهير حاشيته وأن يكون ملكا يملك ولا يحكم، وتحذر من أن الحكم لم يعد للدستور وأن النظام النيابى أصبح حبرا على ورق. واختتمت المذكرة بالقول «إننا لنخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى وخلقى فتنتشر فيها المذاهب الهدامة بعد أن مهدت لها آفة استغلال الحكم أسوأ تمهيد». وعندما أعرب الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الأزهر عن استيائه من تصرفات فاروق الشخصية ورحلاته الترفيهية خارج مصر (كابرى فى إيطاليا والريفييرا فى فرنسا) وقال: «تقتير هنا وإسراف هناك» قام الملك بتنحيته من المنصب فى سبتمبر عام 1951. وابتداء من 25 ديسمبر عام 1951 بدأت المظاهرات تندلع ضد الملك فاروق فى صراحة ووضوح وهتف المتظاهرون بسقوطه وأسرته. وفى تلك الأثناء كان القتال قائما بين الفدائيين المصريين والقوات الإنجليزية بمنطقة قناة السويس بعد إلغاء معاهدة عام 1936 بمعرفة مصطفى النحاس، حتى لقد أقدم الإنجليز على احتلال مدينة الإسماعيلية فرادأفراده ابتداءيوم الجمعة 25 يناير عام 1952 ووقع الصدام بين البوليس المصرى والجيش البريطانى. وفى ظهر اليوم التالى السبت 26 يناير اندلعت الحرائق فى وسط مدينة القاهرة والتهمت المحلات الأجنبية. وكانت تلك بداية النهاية السريعة لفترة من نظام الحكم فى مصر اندمجت فيها المطالب الفئوية للمتظاهرين مع المطالب الوطنية بجلاء الإنجليز واستقامة الحكم، وتم إعفاء مصطفى النحاس من منصبه بقرار من الملك فى حوالى الساعة الحادية عشر من مساء اليوم التالى (الأحد 27 يناير) بحجة عجز الحكومة عن إقرار الأمن، وتعيين على ماهر رئيسا للحكومة الذى حاول استرضاء الجماهير الغاضبة، فقرر خفض سعر السكر وزيادة مقرراته على بطاقة التموين وكذا الزيت وخفض سعر الحلاوة الطحينية والجاز والأقمشة الشعبية. وسرعان ما استقالت حكومة على ماهر وعهد الملك إلى احمد نجيب الهلالى بتأليف الحكومة (أول مارس-28 يونيو 1952). وأسرع الرجل بحل مجلس النواب (24 مارس) الذى كانت أغلبيته من الوفد, ولم تتم انتخابات جديدة بل لقد أخذ موعدها يتأجل يوما بعد يوم حتى قدم استقالته. وتم تكليف حسين سرى بتأليف الوزارة فى 2 يوليو عام 1952 ولكنه لم يفعل شيئا لحل أزمة الحكم، وتقدم باستقالته فى 20 يوليو. ثم عهد الملك فى 22 يوليو عام 1952 إلى نجيب الهلالى بتأليف الحكومة وكانت الحكومه الرابعة فى غضون ستة أشهر بعد حريق القاهرة. وفى تلك الوزارة فرض الملك تعيين صهره إسماعيل شيرين (زوج اخته الأميرة فوزية) وزيرا للحربية ليكون أداته فى السيطرة على الجيش حيث بدأت منشورات «الضباط الأحرار» تنتشر، وكان إسماعيل شابا عاديا لم يدخل الكلية الحربية أصلا. ولعل تلك الحقائق التى تنطق بصدق الموقف عشية ثورة يوليو ومن ثم حتمية الثورة، ترد على الذين يحنون إلى الحكم الملكى الذى كان حكامه يرفعون شعار «مقاومة الحفاء».