آخر تحديث.. سعر الجنيه الإسترليني مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء    ضياء رشوان: مصر ليست صانعة حروب لكنها قادرة على أي حرب    كاميرات المراقبة بمطار القاهرة تكذّب ادعاء راكب باستبدال أمواله بعملات محلية (فيديو)    أحمد الفيشاوي يشتبك مع المصورين في العرض الخاص لفيلم بنقدر ظروفك    برومو تاني تاني يحقق 6 ملايين مشاهدة قبل عرض الفيلم    أمين الفتوى: وجود الكلاب في المنازل لا يمنع دخول الملائكة    عار عليك.. متظاهرون يمنعون بلينكن من التحدث ويقاطعون كلمته 4 مرات متتالية    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    أزهري: ليس من حق الآباء إجبار بناتهم على ارتداء الحجاب    امتدت لساعة.. قرارات مثيرة بعد جلسة الخطيب وجمال علام (تفاصيل)    المصري يفوز على النصر القاهري بهدفين لهدف وديا استعدادا لمودرن فيوتشر    خصومات تصل حتى 65% على المكيفات.. عروض خاصة نون السعودية    تكثيف المراجعات النهائية لطلاب الثانوية العامة بالفيوم.. «إحصاء وإنجليزي»    البحوث الفلكية: الأحد 16 يونيو أول أيام عيد الأضحى المبارك 2024    قرار جديد ضد سائق لاتهامه بالتحرش بطالب في أكتوبر    تكنولوجيا رجال الأعمال تبحث تنمية الصناعة لتحقيق مستهدف الناتج القومي 2030    الأعلى لشئون الإسلام وقيادات الإعلام يتوافقون على ضوابط تصوير الجنازات    «رفعت» و«الحصري».. تعرف على قراء التلاوات المجودة بإذاعة القرآن الكريم غدا    مدير مكتبة الإسكندرية: لقاؤنا مع الرئيس السيسي اهتم بمجريات قضية فلسطين    محمد عبد الحافظ ناصف نائبا للهيئة العامة لقصور الثقافة    رفقة سليمان عيد.. كريم محمود عبدالعزيز يشارك جمهوره كواليس «البيت بيتي 2»    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    حزب الله يشدد على عدم التفاوض إلا بعد وقف العدوان على غزة    جلسة خاصة بين جوزيه جوميز وعبد الله السعيد استعدادًا لمباراة فيوتشر    أمين الفتوى بدار الإفتاء: سداد الدين مقدم على الأضحية    وكيل «صحة الشرقية» يتفقد سير العمل والخدمات الطبية بمستشفى الحسينية    هل وصل متحور كورونا الجديد FLiRT لمصر؟ المصل واللقاح تجيب (فيديو)    تأثير استخدام مكيفات الهواء على الصحة.. توازن بين الراحة والمخاطر    وزيرة الهجرة: نحرص على تعريف الراغبين في السفر بقوانين الدولة المغادر إليها    رئيس الوزراء يتابع موقف منظومة رد الأعباء التصديرية    عبارات تهنئة عيد الأضحى 2024.. خليك مميز    سامح شكرى لوزيرة خارجية هولندا: نرفض بشكل قاطع سياسات تهجير الفلسطينيين    عاجل| أسوشيتد برس تعلن تعليق إسرائيل خدمات الوكالة في غزة    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    "سيارة الغلابة".. انخفاض أسعار بي واي دي F3 حتى 80 ألف جنيه (صور)    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    العثور على جثة طفل في ترعة بقنا    جيفرى هينتون: الذكاء الاصطناعى سيزيد ثروة الأغنياء فقط    «نجم البطولة».. إبراهيم سعيد يسخر من عبدالله السعيد بعد فوز الزمالك بالكونفدرالية    خليفة ميسي يقترب من الدوري السعودي    ب ممارسات حاطة بالكرامة والتقييد.. شهادات توثق تعذيب الاحتلال ل معتقلي غزة (تقرير)    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    برلمانية تطالب بوقف تراخيص تشغيل شركات النقل الذكي لحين التزامها بالضوابط    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    في اليوم العالمي للشاي.. طريقة تحضير «بسكويت الماتشا» في المنزل    روسيا تفشل في إصدار قرار أممي لوقف سباق التسلح في الفضاء    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مارك فوتا: الإسماعيلي تواصل معي لتولي الأكاديميات وتطوير الشباب    شبانة: مندهش من الأحداث التي صاحبت مراسم تتويج الزمالك    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    استعدادات وترقب لقدوم عيد الأضحى المبارك 2024    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كوكب الشرق..
معاناة وإبداع
نشر في الأهرام اليومي يوم 05 - 01 - 2018

قضيت فى صحبة أم كلثوم أكثر من شهر أعيد الاستماع إليها وهى تشدو بأغانيها وأستمع إلى بعض أحاديث وأقرأ معظم ما كتب عنها وأستمع إلى شائعات البعض عن حياتها الشخصية من سقطات وعيوب. ولكن بعد أن استمتعت بهذا الفن الجميل من أغانيها بصوتها الساحر الأخاذ لم أعد أهتم بما قيل عنها.. الناس فى النهاية لا يتذكرون سوى إبداع الفنان خاصة عندما يكون عظيما.
تحدث البعض عن انتهازية أم كلثوم فقد سايرت عهد الملك فؤاد وغنت له، وعاشت عهد الملك فاروق وغنت وأبدعت، وما إن وقع تحرك الضباط الأحرار فى يوليو 1952 حتى باركته وهتفت له وغنت وأبدعت لجمال عبد الناصر وأصبحت لها مكانة كبيرة عنده. وحاولت أن تسير هذا السير مع أنور السادات ولكن يقال إن زوجته سيدة مصر الأولى أوقفتها عند حدود معينة كانت السبب فى مرضها ووفاتها.
فى مقدمة كتاب «أم كلثوم كوكب الشرق» «لإيزابيل صيام» بوديس يدافع عمر الشريف عن أم كلثوم وينفى انتهازيتها حيث يقول: «شدت أم كلثوم بمناقب الملوك وآزرت ناصر فى زعامته للأمة العربية وحملت أوتار حنجرتها مصر إلى القاصى والدانى.. لام البعض عليها تغنيها بكل من ولى مصر من ملوك ورؤساء ولكن بشىء من الإمعان والتفكير... ألم تكن حاجتهم هم إليها أكبر؟».
إذا كانت أم كلثوم لم تخل من العيوب فإن أسباب تلك العيوب ترجع إلى نشأتها. فإن حياة أم كلثوم لم تكن حياة سهلة، بل حياة قاسية منذ طفولتها. وعندما اشتد عودها اشتدت المنافسة بينها وبين غريماتها من المطربات. وقد دافعت عن مكانتها فى ضراوة وهذا حقها وردت الصاع صاعين لمن حاولوا التجرؤ على هذه المكانة. كما كانت لا تنسى الإساءة أو تنسى الضغائن. فهى لم تكن الملاك المتسامح كما صورها المسلسل الذى كتبه محفوظ عبد الرحمن وأخرجته إنعام محمد على. إن هذه التى رأيناها فى المسلسل ليست هى أم كلثوم المرأة القوية التى وقفت أمام غريماتها منيرة المهدية وفتحية أحمد وملك محمد وتفوقت عليهن. ولا ينسى البعض كم حاربت عبد الحليم حافظ عندما تجرأ على مكانتها ثم اضطر فى النهاية إلى أن ينحنى فى خضوع ويقبل يدها وهو يبدى الأسف والندم إلى أن تظاهرت فى النهاية بالعفو عنه. فهذه التى رأيناها فى المسلسل ليست هى أم كلثوم ولولا الاسم لما اهتم الناس كل هذا الاهتمام، فشخصية أم كلثوم تنطبق على أى امرأة ملائكية الصفات والنوازع وقلما يجد المرء هذا النوع من البشر. تفوقت أم كلثوم فى قوة صوتها وأدائها على كل من حاولوا أن يقارنوها بهن حتى المغنية الفرنسية الشهيرة إديث بياف فى قوة الصوت وتنوع طبقاته.
وتتفوق أم كلثوم دائما على اللحن وتنفث فيه من إبداعها ولا تغنى البيت الواحد مرتين بطريقة واحدة. وهى توظف مهارات هذا الصوت فى تأدية أساليب الغناء المألوفة على نطاق واسع والتى جاءت فيها البراعة اللحنية فى المرتبة الثانية. ففى أغنية «أنا فى انتظارك» تقول بلسان امرأة ملتاعة فى انتظار محبوبها: «عايزة أعرف لا تكون غضبان أو شاغل قلبك إنسان» فتغنى هذا الكلام البسيط نسبيا ولكنه لحن يسمح بتنويعات فى تأدية كلمتين مهمتين وهما «غضبان» و «إنسان».. فتتوسع أم كلثوم فى تعاملها غنائيا مع كلمة «إنسان» رغم أن جوهر الكلمة لا يتضمن ما يستلزم تأديتها على هذا النحو، ويؤدى التطويل فى نطقها للكلمات إلى إبراز المعانى والانفعالات الأوسع التى يحتويها هذا البيت الأمر الذى يوحى بطول عذاب هذه المرأة التى تنطق أم كلثوم بلسانها. فالتطويل هنا يعنى طول عذاب ولوعة هذه المرأة التى تتقمص أم كلثوم شخصيتها صوتا والتى تخشى أن يتحول حبيبها عن حبها إلى حب امرأة غيرها.
فمن يتفوق عليها فى هذا النوع من الغناء حيث يتلون صوتها حسب أحاسيسها المتوهجة التى تثير مشاعر جمهورها فإذا به يشاركها فى الاحساس بالهجران واللوعة والحرمان والأمل فى وصل الحبيب من السخف والحمق مقارنة المطربة فيروز بها وأن أم كلثوم لم تبدع سوى فى غناء القصائد وأن ثقافة صوتها لا تظهر إلا فى أدائها لهذا النوع من الغناء وأن القصائد هى التى تضيف إلى إبداع أم كلثوم.. وبالطبع فهذا سخف ومحاولة التجنى على هذه العملاقة الفريدة بدليل أن أداءها يختلف فى كل قصيدة حسب إحساسها المرهف بالكلمات.
فإذا أردنا أن نقارن فيروز فعلينا أن نقارنها بمن يأتين فى المرتبة بعد أم كلثوم بمسافة أى مطربات الصف الثانى. فالقمة لا تتسع سوى لأم كلثوم فى جميع أنواع الغناء ويأتى من بعدها أسمهان وليلى مراد ويمكن أن نضع معهما فيروز.
كانت أقوى وسيلة للتعبير لدى أم كلثوم هى أسلوبها الغنائى، فقد أبدعت لنفسها أسلوبا من أساليب سابقة تعد أساليب عربية وإسلامية. ولذلك يعتبرها الكثيرون هى وأعمالها الغنائية من الفن المصرى والعربى الأصيل، وأسهمت بأعمالها فى تحقيق نزعتين مهمتين فى الثقافة التعبيرية المصرية هما النزعة الكلاسيكية الجديدة لتجديد التراث والأخرى نزعة جماهيرية. ويعتبر رصيدها الغنائى ككل من نتاج جهدها وذلك لاشتراكها الشامل فى انتقاء وصياغة كلمات وموسيقى أغانيها. فقد كانت تتدخل فى كل تفاصيل أعمالها الفنية وهى التى تحدد ظروف إصدارها.
وقد أجمع كثير من المتخصصين على أن براعتها فى الغناء ترجع إلى قدرتها على تلاوة القرآن كما أنها لم تكن تغنى بيتا واحدا بطريقة واحدة مرتين. وعندما كانت تغنى كانت تصور حال الناس تصويرا دقيقا حيث كان صوتها مفعما بحياتهم اليومية.
الزمان والمكان
لا يعلم أحد تاريخ ميلادها بالضبط ولكن حسب أحد دفاتر المواليد فهو الرابع من مايو 1904، فى بلد كان البريطانيون يحتلونه ويموج بالحركات الوطنية.
أما المكان فهو قرية طماى الزهايرة بمركز السنبلاوين بمحافظة الدقهلية. كانت القرية تتكون من 280 بيتا ويسكنها 1665 نسمة.
ووصفت أم كلثوم قريتها بأنها قرية متواضعة ولم يكن أعلى مبنى فيها يزيد على دورين.
وكان أكثر مظهر من مظاهر الثراء «كارتة» العمدة التى يجرها حصان. ولم يكن فى القرية كلها غير شارع واحد يتسع لكارتة العمدة. كنت أغنى فى قريتنا وفى القرى المجاورة وكلها كانت قرى صغيرة، وكنت أظن أن مدينة السنبلاوين أكبر مدينة فى العالم وكنت أستمع لما يقوله الناس عنها كمن استمع الآن عن نيويورك أو لندن أو باريس». كان بيت أسرة أم كلثوم صغيرا قد بنى بالطوب اللبن ولم تكن الأسرة تملك أى شىء آخر. كان أبوها الشيخ ابراهيم السيد البلتاجى يعمل مؤذن مسجد القرية وقارئا للقرآن.
وقد وصفه الشيخ زكريا أحمد بأنه رجل قوى الإيمان، شديد التقوى. تولت أمها فاطمة المليجى رعاية الأطفال أم كلثوم وشقيقها خالد الذى يكبرها بعام وشقيقتها سيدة التى كانت تكبرها بعشر سنوات. عندما بلغت أم كلثوم الخامسة من عمرها ذهبت مع أخيها خالد إلى كتاب القرية. وبعد وفاة شيخ الكتاب كانت تذهب إلى مدرسة تبعد عن القرية عدة كيلو مترات. وظلت أم كلثوم تذهب إلى هذه المدرسة لمدة ثلاث سنوات.
اشتمل التعليم الذى تلقته أم كلثوم فى الكتاب والمدرسة على ذلك التعليم الذى يتلقاه جميع أطفال الطبقات الفقيرة من أبناء جيلها الذين حظوا بنعمة التعليم وأهم ما فيه هو حفظ القرآن الكريم حيث كان لذلك أكبر الأثر على نطقها «فقد اكتسبت هى وزملاؤها القدرة على نطق لغة القرآن نطقا سليما وأدركت القيمة التى يكتسبها من يحفظ القرآن ويجيد نطق النص وتقسيمه إلى عبارات منغمة.
والوحدة التركيبية الأساسية فى التلاوة هى العبارة التى يعقبها وقفة، والعبارة التى تقال فى نفس واحد تعد من الخصائص المهمة فى التلاوة. ويقتضى تجويد القرآن عناية خاصة ببنية العبارات والوقفات التى تسمح بالشهيق فى لحظات مناسبة حفاظا على معنى العبارات والجمل من التحريف.
وتقتضى قواعد التجويد أيضا نطق الصوائط نطقا خاصا إذا سبقتها صوائط مثل الحاء والضاد والصاد».
(«صوت مصر» فرجينيا دانيسلون)
لم يكن تعليم البنات هو السائد فى ذلك الزمن ولكن كان يسمح لهن بالذهاب إلى الكتاب. وتقول أم كلثوم إنها ذهبت إلى المدرسة مع اثنتين من بنات القرية.
كان الشيخ ابراهيم يقوم بأداء الأغانى الدينية فى الأفراح والمناسبات التى تعقد فى قريته أو فى القرى الأخرى المجاورة من أجل زيادة دخله البسيط، كان يؤدى هذه الأغانى مع ابنه خالد وابن أخيه صابر. وتقول أم كلثوم إنها كانت تسترق السمع وهو يدرب أخاها على أداء تلك الأغنيات حتى حفظتها عن ظهر قلب.
وعندما اكتشف أبوها أمرها واستمع إلى صوتها الجميل ضمها إلى فرقته الصغيرة.
بداية أم كلثوم فى الغناء
بدأت أم كلثوم غناءها فى إحدى المناسبات فى بيت العمدة، لم يدرك أحد من الموجودين أنها فتاة، فقد كانت تضع على رأسها الكوفية والعقال.
نال اثنان من أهل الطرب إعجاب الناس، وتعد حياة كل منهما الفنية مثالا على كل من كان من بين المشايخ فى مجال الموسيقى وهما درويش الحريرى وعلى محمود، فقد عاشا فى الأحياء القديمة فى القاهرة، ثم درس درويش الحريرى مبادئ الموسيقى على يد أحد ملحنى المسرح الغنائى، وبدأ بعد ذلك فى تلحين الموشحات ثم صار معلم الكثيرين من زملاء أم كلثوم ومنهم زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب.
ولم يكن مشايخ الموسيقى المغنين الوحيدين فى البيئة التى عاشت فيها أم كلثوم، فهناك فنانو المواويل الذين كانوا يشتركون معهم فى إحياء الحفلات العامة.
والموال هو أغنية بالعامية متعددة الأنواع ترتبط فى معظم الأحيان بالثقافة الموسيقية الريفية، وكان الموال يؤدى بمصاحبة الطبول وضرب الكفوف، والمزمار المزدوج، والأرغول أو أى عدد أصغر من هذه الوسائل.
هذه الأنواع من الموسيقى شكلت جزءا من طفولة أم كلثوم،
أول مرة تغنى فى القاهرة
كانت أول مرة تغنى فى القاهرة فى حفل زفاف، قام زكريا أحمد وأبو العلا محمد بدعوة أصدقائهما لحضور الحفل فإذا بأم كلثوم تلتقى بالمنشدين الدينيين على محمود والقصبجى والد محمد القصبجى، ثم طلبت أم كلثوم بعد ذلك أن تغنى فى بيت عبد الرازق حيث كان صفوة رجال مصر من الحاضرين مثل عدلى يكن باشا وعبد الخالق ثروت باشا وعلى ماهر باشا والأستاذ لطفى السيد.
سارت الفتاة بملابسها البدوية البسيطة مما جعلها تشعر بالخجل وسط سيدات الأسرة بملابسهن الفاخرة حتى وصلت إلى المكان المعد لها، ثم بدأت تغنى. فى البداية انصرف الضيوف عنها فى الحديث فيما بينهم ولكن لم يكد يخرج صوتها حتى توقف الضيوف عن الكلام وساد الصمت فى القاعة. غنت أم كلثوم أغانى دينية فاهتم الضيوف بما يسمعونه ويطلبون منها أن تعيد عليهم ما كانت تغنيه، وبانتصاف عام 1922 كانت أم كلثوم قد أثبتت وجودها فى القاهرة كمغنية معترف بها.
الشيخ أبو العلا محمد وأحمد رامي
اختارها الشيخ أبو العلا محمد من دون الآخرين لتكون خليفته فى فن الدور وهو أغنية تعتمد على قصيدة غرامية باللغة العامية فى واحد من الأوزان الشعرية ويتكون من قسمين رئيسيين هما المذهب وهو القسم الافتتاحى الذى يغنيه الكورال ثم الدور وهو قسم منفرد أطول من المذهب.. وقد طور هذا الشكل المطرب محمد عثمان والشيخ المسلوب وعبده الحامولى فى القرن التاسع عشر من أغنية بسيطة موسيقيا، يتماثل قسمها وقسمها الثانى فى اللحن إلى أغنية رفيعة المستوى، ويعيد المطرب أبيات الجزء الأول من الدور إيماءات كثيرة مختلفة ومرتجلة ويعتمد فى ارتجاله فى بعض الأحيان على مقطع واحد هو «آه» بالتبادل مع المذهب. ونتج عن هذا التطوير أغنية جديدة تعتمد على أصول التأليف الموسيقى التاريخية، ويكاد لا يقدر على تأديتها إلا المطربون المحترفون وذلك لصعوبتها الفنية وضرورة استعراض البراعة فى التأدية، وامتدت سيادة الدور من منتصف القرن التاسع عشر إلى الثلاثينيات من القرن العشرين.
وفى نفس الوقت كرس أحمد رامى جل وقته واستعذب ذلك مما جعله يزورها بانتظام كل يوم اثنين فى الأسبوع، وانفجرت فيه ذات يوم قائلة: ألا يمكنك الكتابة لغير متذوقى الأدب؟ هناك لغة وسيطة بين الفصحى والعامية، لماذا لا يقدم للجمهور إلا الكلمات البالغة الصعوبة؟ هل يمكنك أن تغير ذلك؟.
كانت زياراته لها تعذبه بكلماتها ولكن ما إن يغادرها حتى يندم على ما اعتراه من غضب، فواضح الأمر أنه كان يستعذب كل شىء منها، غضبها، واندفاعاتها ونفحاتها، كانت بعد قراءة أية قصيدة مرتين قادرة على إضافة بصمتها، وعندما تغنى تستأثر بالكلمات وكأنها ما كانت يوما ملكا له كان يشك فى نفسه ليزداد يقينا فيها، صدحت بأغنيته «إن كنت اسامح» حتى إنه بقى مذهولا أمام كمال أدائها، ورأى أن عليها تسجيل أغانيها حتى يسمع لهذا الصوت الساحر جمهور أكبر.
كان رامى ينتقى لها الأعمال الكلاسيكية الشعرية بعناية. كان يقضى أيام الاثنين فى منزلها منذ ساعات الفجر الأولى وحتى المساء، حيث يقوم بتعليمها اللغة الفرنسية، ولم يكن يرفض تلقينها أى علم من العلوم مادام سوف يبقى إلى جوارها وقتا أطول.
هل الأغنيات والقصائد التى كتبها أحمد رامى لأم كلثوم تعبر عن حقيقة مشاعره نحوها؟ هل أحبها كل هذا الحب وعشقها كل هذا العشق من ناحيته فقط؟ هل تعذب حقيقة وتلوع حتى إنه كتب لها أغنية «ليه تلاوعينى وانتى نور عيني؟» واعترف بعبوديته ومهانته وتمرغ فى لوعته عندما قال:
عزة جمالك فين
وتجيب خضوعى منين
من غير ذليل يهواك
ولوعتى فى هواك
يقول البعض لو كانت هذه المشاعر حقيقية لأصبح مثل قيس بن الملوح الذى عشق ليلى وانتهى أمره بالجنون. وكذلك لما استطاع رامى أن يتزوج أو ينظر حتى إلى امرأة أخرى. فالفنان عندما يبدع فإنه يتحول إلى مخلوق آخر إلى أن ينتهى من إبداعه.
وقد جرى توجيه مثل هذا الاتهام إلى شكسبير عندما كتب «سونيتاته» حتى إن الدكتور محمد عنانى يحيلنا إلى السونيتة 57 من أعمال شكسبير حيث يستهلها الشاعر:
ماذا عساى فعله ما دمت عينيك
إلا إجابة مطلبك فى كل ساعة وكل وقت لك؟
وتأمل كيف تبدو هنا التقاليد وعظم تأثيرها، فهى تقاليد يصر عليها شكسبير وخصوصا فى المزدوج الختامى الذى يلخص الموقف فى السونيتة برمتها:
الحب قلب مخلص شديد الحمق لا يرى المثالب
مهما يكن ما تفعله فلا يرى غير المناقب
ويندر أن نجد باحثا ينكر دور التقاليد والأعراف فى تشكيل هذه الصور للحب فى بعض سونتاته أى قوله بأنه عبد للمحبوب يأتمر بأمره ويخضع لإرادته وما إلى هذا من سبيل. ولكن ترى هل كان شكسبير الإنسان رغم هذه المبالغة يكشف عن نفسه فعلا؟ شكسبير فتح مغاليق قلبه، فهل يكشف الشاعر عن حقائق أم يصطنع موقفا مستعارا من تقاليد شعراء الحب ورثها من القرن الرابع عشر؟ وهل إذا كانت القصائد صادقة فى نقل حقائق «نفس الشاعر» أى تلتزم بما يسميه الرومانسيون «الإخلاص» (Sinserity) وما يسميه لا نجوم «شعر التجربة Langawm Poetry of Experience» تصبح أعلى فنيا «أو أجدر بالقراءة وأثقل وزنا من غيرها؟» النقد الجديد (The New Criticism) يرفض الربط بين الشاعر وشعره، بل يتجاهل الشاعر تجاهلا تاما ويعتبر الشعر إنتاجا فنيا مستقلا ، وهو ما بشر بنظرية موت المؤلف عند رومان بارت، وما تقول به النظرية الأدبية من أن الشعر نتاج عوامل ثقافية ولغوية اجتمعت فى لحظة عند الكاتب فصاغها شعرا («سونيتات شكسبير» ترجمة وتقديم محمد عنانى). أما القصبجى فقد كان يداوم يوم الأربعاء من كل أسبوع على دروس العود لها ويلحن لها فى نفس الوقت الأغنيات مجانا فهو لا يتقاضى أجرا إلا من خلال عمله كعازف فى فرقة أم كلثوم. وكان الشيخ أبو العلا أقلهم مجيئا بعد أن تقدم به العمر واعتلت صحته وبدا ذلك واضحا فى أغنياته التى تدور حول فوات العمر ومرور الزمن. حمل المجددون عنه الراية وهو يرقبهم فى ود فقد كان يدرك كمعلم أن من يملك أسس ودعائم القديم يمكنه بسهولة الإقدام على التجديد.
صوت أم كلثوم
كان صوت أم كلثوم قويا بقدر ما كانت نوعيته متساوية من مداه الغليظ إلى مداه الحاد دون انتقالات أو تغيرات مفاجئة ملحوظة، يقول عبد الوهاب: إن صوتها لا يتغير وقعه على الأذن بسبب تغير المدى فى اللحن فالطبقات الغليظة مماثلة للمتوسطة ومماثلة للحادة من حيث سيطرتها عليه. وتحافظ على الجرس الذى يميز صوتها، إن وضوح طبقة الصوت والنغم من بداية المدى إلى نهايته كانت من الأمور المهمة.
ولما أكون وياه هايتم فى بحر هواه
أو يا ظالمنى يا هاجرنى
«صوت أم كلثوم فى الثلاثينيات» يمتد بين أوكتافين (والأوكتاف أو الديوان هو المسافة الموسيقية التى يكون أحد حديها جوابا أو قرارا للآخر، وتحصر بينهما عددا من درجات السلم الموسيقى) كان صوتها قويا فى مداه الغليظ فى جميع أغانيها
وكان يهبط مما يقارب نغمة صول كبير إلى ما دون نغمة دو كبير المتوسطة حتى سنة 955، حين صارت تستطيع أن تصل إلى نغمة صول صغير الحادة فى يسر («صوت مصر» فرجينيا دانيسلون).
كذلك اكتسبت أم كلثوم القدرة على التحكم فى تنفسها، فالمستمعون كانوا يعجبون بالعبارة الطويلة سواء كانت طويلة نصيا أو موسيقيا أو نصيا وموسيقيا معا.
يقول أحد نقاد مجلة الكشكول: إنها رائعة الصوت بارعة فى أدائها حسنة الإلقاء واختصت هذه الصفة من خلال أغنية «مالى فتنت» ففيها تنطق بكل كلمة فى وضوح تام وتقسم النص إلى عبارات فى المواضع التى تسمح فيها التراكيب النحوية بالتقاط الأنفاس، فهى تنطق بأول عبارة فى القصيدة كاملة فى نفس واحد وهى «مالى فتنت بلحظك الفتاك» وعندما أعادت الكلمات الثلاث الأولى أسقطت الكلمة من آخر كلمة «فتنتُ» حسب الوقف عليها وهو تصرف سليم يتفق وقواعد الإلقاء فى موقع كهذا.
ويعلق محمد عبد الوهاب: «إن أم كلثوم حتى بداية عهدها بالغناء كانت متمكنة من اللغة تمكنا تاما. فلا يمكن أن تستمع إليها ثم تتساءل: ماذا كانت تقول؟ فإلقاؤها كان سليما تماما وكان هذا نتيجة لدراسة القرآن».
أم كلثوم والسينما
استبدت بأم كلثوم فكرة أن البقاء يستوجب التجديد، وكانت واثقة فى عصرها وتهتم بالتقنيات الجديدة كالسينما والإذاعة وعلى يقين أن كلا منهما سوف تساعدها على التقدم وسوف تجعل الفن يتطور هو الآخر.
راهن بنك مصر بحماس رئيسه طلعت باشا حرب على فن السينما وقام بتمويل أول فيلم مصرى ناطق ثم دار الحديث عن فيلم جديد يفوق ما سبقه بعنوان «الوردة البيضاء» بطولة محمد عبد الوهاب.
وكان محمد كريم فى ذلك الوقت هو المخرج الأول فى مصر. وفكر فى أن يضطلع عبد الوهاب وأم كلثوم ببطولة فيلم الوردة البيضاء، وبذلك يمكنه أن يخرج أجمل الأفلام الموسيقية، فقام كريم بدعوة عبد الوهاب وأم كلثوم إلى الغداء، وجاءت أم كلثوم وقد ارتدت ثوبا داكنا شديد الأناقة، وبدا عبد الوهاب مسرورا بهذه الدعوة، وبعد تناول الحمام قالت أم كلثوم إن الأمر قد يكون مغريا بالنسبة لها لو أن دورها فى الفيلم كان محوريا، أو على سبيل المثال لو أن الفرقة الموسيقية كانت من النساء، أو كان للبطلة الدور الرئيسى، فهكذا يمكنه الإسهام فى تقدم المرأة المصرية بصفة خاصة والعربية بصفة عامة.
وأصيب المخرج محمد كريم بخيبة أمل. وتكلف عبد الوهاب وأم كلثوم ابتسامة باهتة ثم غادرا المكان، قامت أم كلثوم بعد ذلك ببطولة ستة أفلام غنائية، كانت هذه الأفلام تحمل ملامح رصيدها الغنائى فى ذلك الحين، فإن موضوعات قصص الأفلام كانت موضوعات رومانسية تقدم شخصيات ساحرة فى أماكن وأزمان غير مألوفة من التاريخ العربى.
وكانت هذه الأفلام تبرز القيم النبيلة وخطوط قصصها واضحة فى التفصيل بين الخير والشر.
كانت أم كلثوم تشترط أن يكون لها الحق فى التدخل فى معظم عناصر الفيلم، وكان العقد المبرم بينها وبين جهة الإنتاج يضمن لها الحصول على أجر يصل إلى ألف جنيه، بالإضافة إلى 40% من أرباح الفيلم بعد خصم التكاليف بشرط ألا تزيد على سبعة آلاف.
كان أول فيلم عام 1936 وهو فيلم «وداد» وتدور أحداثه فى عصر المماليك عن علاقة الحب بين التاجر باهر وجاريته وداد ذات الصوت الساحر، ويسطو قطاع الطرق على قافلة باهرة ويستولون على بضاعته وهى كل رأسماله، ويعجز باهر عن سداد ديونه، تعرض عليه وداد أن يبيعها فى سوق الجوارى فيرفض. ولكن تلح عليه وداد فيضطر إلى بيعها، ولكن الأمور بعد ذلك تتغير إلى الأفضل ويستعيد باهر جاريته.
كان الفيلم من تأليف أحمد رامى وإخراج فريتز كرامب، وبعد نجاح فيلم وداد طلب منها المخرج أحمد بدرخان أن تكون بطلة فيلمه «نشيد الأمل» (1937) قصة إدمون تويما وسيناريو أحمد بدرخان. وتدور أحداث الفيلم عن إسماعيل الزوج المستهتر الذى يطلق زوجته آمال وبين يديها طفلة، وتعانى الزوجة شقاء الحياة، يعالج الدكتور عاصم ابنتها ويشفق عليها ويتحول الإشفاق إلى حب.
وفى عام 1940 قامت أم كلثوم ببطولة فيلم «دنانير» الذى يدور حول الفتاة البدوية دنانير التى تعيش فى خيمة فقيرة فى الصحراء. الفيلم قصة أحمد رامى، سيناريو وإخراج بدرخان.
فى عام 1942 قدم لها المخرج أحمد بدرخان سيناريو فيلم «عايدة» عن قصة لعبد الوارث عسر اقتبسها من أوبرا عايدة، تدور الأحداث عن عايدة الفتاة القروية لأب فلاح فقير يعمل فى أرض أحد الأغنياء.
فى عام 1945 قامت أم كلثوم ببطولة فيلم «سلامة» قصة على أحمد باكثير وسيناريو وإخراج توجو مزراحى وحوار بيرم التونسى، فيلم «فاطمة» عام 1947 قصة مصطفى أمين وسيناريو وإخراج أحمد بدرخان.
تجرى أحداث الفيلم فى القاهرة، وقدم هذا الفيلم معانٍ مهمة تمثل عددا من الأفكار والمعتقدات السائدة فى المجتمع المصرى مثل سوء سلوك الأثرياء وغدرهم وأهمية التضامن بين الأصدقاء والجيران وتقدير المجتمع للمرأة العفيفة التى تنجح فى مقاومة الإغراء.
توقفت أم كلثوم بعد ذلك عن العمل فى السينما ولم يكن هذا نابعا من قرار نهائى، فقد درست عددا من العروض التى قدمت إليها ومن بينها فيلم تقتسم بطولته مع عبد الوهاب، وربما كان هذا المشروع عن قصة «مجنون ليلى»، ولكن لم يوافق كل منهما على شروط الآخر، وربما كان هذا الرفض فى مصلحتهما من ناحية التمثيل، فقد كان سن كل منهما لا يصلح لشخصيتى قيس وليلى، رغم أننا كنا سنسعد كثيرا بالألحان وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.