لا يزال عالمنا المعاصر بحاجة إلي رؤية حضارية جديدة تخالف ما اصطلح علي تسميته في السنين الماضية بالعولمة التي تقوم في النظام العالمي الجديد علي المركزية الرأسمالية. تنهض هذه الرؤية الحضارية علي الأسس التي يطرحها عصر المعلومات والمعرفة, بما لا يتعارض مع خصوصيات وإمكانيات وتطلعات كل دولة في العدل والحرية, نتيجة التفاوت البالغ في مدي قربها أو بعدها عن الحداثة, ونتيجة التفاوت البالغ أيضا بين تقدم الشمال, وتأخر الجنوب. ذلك أنه ما لم تتشكل للعالم رؤية متكاملة متحررة من الهيمنة بكل صورها الظاهرة والخفية, ويأخذ بعضها بأوتاد بعض, في الخطط والسياسات, فإن التناقضات ستكون كفيلة بهدم كل الأبنية, في ظل انفراد قوة واحدة بالعالم, وتقويض كل الأحلام الوطنية والقومية المشروعة التي نشأت تحت تأثير تحول العالم إلي قرية صغيرة, أو إلي غرفية كونية, يرتبط فيها الجزء بالكل, ليس فيه شرق وغرب, أو شمال وجنوب, والناس فيه علي قدم المساواة إزاء حقوق الإنسان. أكتب هذه الكلمات تعليقا علي ما جاء في مقال الكاتب الكبير السيد ياسين في الأهرام في15 أكتوبر الماضي نحو رؤية عربية للعولمة.. الذي يصف فيه الثورة الثقافية التي قام بها ماوتسي تونج في الصين بأنها كارثة, أو أتت بكوارث. وقبل أن أعرض لهذا الوصف أو الحكم القاطع لابد أن أذكر أن العالم الثنائي القطبية الذي عانت منه الشعوب كثيرا, ما كان يمكن أن يسقط, أو تسقط إحدي قوتيه في مطلع التسعينيات, دون أن يجد من يرثيه, وما كان يمكن لغالبية المثقفين أن يتخطوا أسوار الماركسية, إلا لأنه كان مطروحا قبل هذا التاريخ, في كل الأدبيات, الفكر الديمقراطي الليبرالي الذي كان ماوتسي تونج أحد أعلامه, ويتمثل في دعوته المعروفة بترك مائة زهرة تتفتح. وإذا لم يكن من السهل تحديد الأسباب بالمسببات التي أدت مجتمعة إلي سقوط الثنائية القطبية إلا في الكتب والمجلدات, فإن شعار ماوتسي تونج بغض النظر عن أحداث حياته هو الذي فتح الباب المغلق مع الفلسفات الإنسانية الحديثة, للنقد وللتساؤل, ولإحلالها في مجال نشر المعرفة محل اليقين الجازم, والتعصب الأعمي, والرؤية الأحادية. وغني عن البيان, أنه بفضل مثل هذا العطاء اكتسب الفكر والإبداع حقهما الأصيل في التعبير, سواء في المجتمعات التي تقوم علي التخطيط بصورة صارمة متزمتة, أو تلك التي تتخلي عنه كلية, بدرجة تفضي إلي الفوضوية. ومع أن التراث الإنساني, منذ اليونان وعبر كل العصور, حافل بالدفاع المجيد عن هذه الحرية التي تحفظ للإنسان حقوقه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية, فهذا لن يقلل بحال من قيمة ما كتبه ونادي به ماوتسي تونج في كتابه معالجة المتناقضات بين صفوف الشعب, الذي ترجمه وقدم له الكاتب والناشر اليساري لطف الله سليمان, وصدر في القاهرة عن دار النديم في أواخر الخمسينيات, أو في كتابه الديمقراطية الجديدة الذي ترجم إلي اللغة العربية في مصر في الأربعينيات, وطبع ثلاث طبعات. ولن يقلل أيضا من الفكر المطروح في هذين الكتابين عدول ماوتسي تونج نفسه عن بعض ما كتب أو قال في ثورته الثقافية, ولا الممارسات التي تعاملت بها هذه الثورة في معاركها مع المعارضين, كما لا يقلل من تاريخ المدافعين عن الحرية تنازلهم عن بعض ما نادوا به, لأنه أصبح ملكا للتاريخ.. وبالتراكم الكمي لهذه الدعوات تستوي الحقائق الإنسانية, وتتشكل الحضارات. ولم يكن مقصد ماوتسي تونج من ترك مائة زهرة تتفتح, ومائة مدرسة فكرية وفنية تتصارع, غير هذه الحرية التي أتاحت للصين الانفتاح علي العالم, وشجعتها علي التحديث في شئون الحياة والثقافة والعلم, في عالم زاخر بالتناقض والصراعات, لأنه, عبر هذا الانفتاح والتحديث, يمكن تصحيح الكثير من التجارب التي أسييء فهمها, أو التي وئدت قبل أن تثبت وجودها, وتعطي ثمارها. وكان ماوتسي تونج يقول: كم من الأشياء الطيبة التي ننظر إليها لأول وهلة, لا علي أنها زهور عاطرة, وانما علي أنها أعشاب سامة. ولا شك أن تراث الصين القديم كان من روافد تشكيل هذا الموقف, مثلما كانت المعارك الوطنية ضد الاستعمار والرجعية من روافدها. ولكنه من ناحية مقابلة, كان يري أن مثل هذا التصحيح, أو هذا الإدراك, قد يستغرق آمادا زمنية, وخلال هذه الآماد تمتحن كل الآراء والأيديولوجيات في التطبيق العملي الذي يكشف الصحيح من الفاسد, أو الصالح من الطالح, فضلا عما يحتاج إليه أي تغيير من التأمل والتمحيص والدقة التي لا تحتمل الخطأ, ويعني بها ماوتسي تونج القوة التي لا تدخر وسعا في عزف الأنغام بكل الأصابع, والتحليق بالخيال المحاط بالابهام. ومع هذا.. فمن المؤكد أن للسيد ياسين مراجعه التي قد تكون غير معروفة لي, ولمن كتبوا عن ماوتسي تونج في حياته وبعد رحيله. فهل له أن يقدم في مقالات تالية حيثيات هذا الرأي حول هذه القضية التي تعد من أكبر قضايا التطور والتقدم الإنساني قضية المغايرة والتعددية والحرية كما عبر عنها ماوتسي تونج في تاريخنا الحديث بعبارته دع مائة زهرة تتفتح؟