«يا رب .. يا ستار» سأله الطفل «منصور» ذات مرة: - هو أنت ليه بتقول كده يا عم عبد القادر مال عليه برأسه، ووشوشه ضاحكا: - عشان لو ست «مسترخية» فوق السطح تستر نفسها. كان النخل فى القرية يخترق أسقف البيوت، أو لو أردت الدقة، فاغلب البيوت الطينية كانت تبنى على وضع النخل، فأهل القرية يعتقدون إلى يومنا هذا أن قطع النخل حرام. وطالع النخل كان يرى كل الأسطح، ومن بداخل «السقيفة»، وقبل أن يشاهد عورات الناس، يطلق إنذاره. وموسم حصاد البلح له فرحة لأطفال القرية وفى مقدمتهم «منصور» المغرم بطالع النخل، فهو من مريديه، يتعقبه كل يوم جمعة فى كل نجوع القرية حتى يعثر عليه، ليرجع بيته و«حجره مليان بلح»، يأكل منه، ويخبئ الزائد. كان عبد القادر رجلا خمسينيا ذا شارب مميز وهندام لا يتغير، يمتهن طلوع النخل منذ أن كان شابا يرافق أباه لأنه وحيده وسط خمس بنات، ليتعلم أصول التلقيح والتقليم وقطع «السبايط» ورميها باحترافية. ومن عادة طالعى النخل تأمين أنفسهم وأخذ العهد من الطريقة الرفاعية حتى يأمنوا مكر الثعابين والأفاغى التى تعشش فى قلوبها. حزم عبد القادر وسطه النحيف بحبله المفتول يدويا من «ليف النخل»، وهو يرتدى «الكالسون» الأبيض الذى يعلوه سديرى، ووضع «بلطته» فى يمينه، و«سراقه» فى شماله. ولف «المُطلع» حول جذع النخلة، وشده بيده ليطمئن قلبه، واسند ظهره عليه، وتبسم فى وجه منصور، وأطلق صيحته المعتادة للمرة الثانية وهو فى طريقه إلى أعلى، فهرول أطفال القرية نحو الصوت، وكأنهم ينتظرون النداء. ارتكن منصور فى ظل حائط ليحتمى من حرارة الشمس، ووضع كفه على جبينه ليتابع خطوات أرجل طالع النخل التى تتنقل بمهارة حتى وصل إلى قمتها فى لحظات، بالرغم من علوها الكبير. أخرج «بلطته» ليزيل الجريد و «الكرنيف» من طريقه ليصل إلى «سبايط» البلح، فهزت إحداها، فأسقطت بعض حبات الرطب، فأكلها الأطفال هنيئاً، وأطلق صيحات متتالية ( الله أكبر، الله أكبر). وقعت البلطة من يده، فظن الجمع أنها فلتت منه، وانتظروا. كان الطفل منصور يحدق بنظره لأعلى ناحيته، وباقى الأطفال يلهون فرحاً فى انتظار تساقط حبات أخرى. وفجأة، تعالت أصوات التكبير، بعد أن شاهدوا عبد القادر مقلوباً، رأسه لأسفل، وأرجله لأعلى، معلقا من وسطه المشدود بالمُطلع. تجمع كل أهل القرية أسفل النخلة، لا يدرون ماذا حدث له، فبينه وبينهم عشرات المترات، وبدأوا يلقون بتكهناتهم. - السر الإلهى خرج - سكتة قلبية - الأفعى السامة وقال أحدهم: - لا بد من تبليغ الشرطة أتت سيارة تطلق «سرينتها»، ومن هول المنظر، تنحى الضباط جانباً، وقاموا بالاتصال بشبكة الكهرباء ليستعينوا ب «الونش» الذى يستخدم فى صيانة أعمدة الإنارة حتى يستطيعوا إنزاله. الكل فى لحظة ذهول، شاخصة أبصارهم لأعلى، وشقيقات عبد القادر وزوجته يتساقطن واحدة وراء الأخرى على الأرض مغشياً عليهن، ومن يتم إفاقتها، تنهش وجهها وشعرها بكلتا يديها، حتى حاولت إحداهن صعود النخلة لإنقاذ شقيقها، ولكنها سقطت على الأرض بعد فشلها. وكان ما يشغل فكر الطفل منصور فى تلك اللحظات هو رجوعه إلى المنزل بحجر خاوى من البلح، ليس هذه الجمعة فقط، بل والمقبلة. بدأت خيوط الشمس تتسرسب، وتحل مكانها خيوط الغروب، فنادى أحد أبناء القرية: - وسعوا الطريق، الونش وصل. مر بصعوبة وسط الشوارع الضيقة، وبعض الشباب أزالوا من أمامه «عشة» بأكملها، ليصل إلى مكان النخلة. بدأت «كابينته» تصعد لأعلى وبداخلها ثلاثة شباب، مصحوبة بسيل من الدعوات، وعلى بعد مترين من طالع النخل، توقفت. هلل الجميع فى صوت واحد: - كمل يا اسطى، هانت. فنظر السائق لأسفل، ولم يجب، فجلس الجميع على الأرض، فلم تعد أرجلهم تقوى على حمل أجسادهم المنهكة، وعاد الونش من حيث أتى. رفع إمام المسجد أذان المغرب من جوار النخلة، فهو لا يحتاج إلى مكبر صوت، فالقرية كلها هنا، وصلى الجميع، وتبعها العشاء، وبعد كل صلاة ينظرون لأعلى، ويدعون العلى. ربط شاب ثلاثينى «المُطلع» البديل الموجود فى «شوال» عبد القادر على وسطه، واحكمه حول النخلة، وقال: - سأقطع مطلعه، وانزله بالحبل الجرار مثل «سبايط» البلح فهمس شاب خبيث فى أذنه: - الأفعى لا تزال بالأعلى خارت همة الشاب، ووسط صيحات الموجوعين من عائلة عبد القادر قرر الصعود. دنا منه عجوز سبعيني: ماذا قال لك الشاب؟ - الأفعى السامة بالأعلى فأخرج «حجابا» من جيبه وأعطاه إياه، ومسح على كتفه، مرددا: - لن تقترب منك بإذن الله وجلس إلى جذع النخلة يوشوشه بكلمات. غلف الصمت المكان، حتى سمع الناس بعض «همهمات» العجوز «الرفاعى» المشهور بإخراج الثعابين من جحورها. وصل الشاب، جذب «خطاف» الجرار بيده، وعشقه فى الحبل المفتول الملفوف بوسط عبد القاهر، وقطع «مُطلعه»، فأصبح طالع النخل معلقا «كسبايط» البلح، وبدأ الشاب يرخى حبل الجرار بحذر، حتى تلقف الناس عبد القادر، ونزل الشاب سالما. دنا منه العجوز «الرفاعى» وهو ملقى على الأرض، يخرج «ريم» من فمه، فشم رائحة يعرفها. شق الجمع مغادرا، وهو يردد فى سره: - الويل لخاين العهد لملم الطفل منصور بعض الأحجار الصغيرة، ووضعها فى حجر جلبابه، وكأنه بلح، وعاد لبيته. وتفرق أهل القرية كل فى طريق، وبقيت هذه النخلة محرمة على طالعى النخل أبد الدهر، وأصبح ما تحمله فى جوفها رمزا للبلح الحزين.