لم أكن قد بلغت العشرين من عمرى عندما اطلعت لأول مرة على كتابات الأستاذ ساطع المصرى عن القومية العربية. كان الرجل يؤمن إيمانا عميقا بأن نهضة العرب لا يمكن أن تتم إلا إذا اتحد العرب فى دولة واحدة. وأذكر أنه صدّر أحد كتبه بعبارة تحمل المعنى الآتي: «سُئلتُ كيف ُهزم العرب فى حرب فلسطين مع أنهم كانوا يحاربون بستة جيوش فى مقابل جيش واحد؟ فأجبت بأنهم هزموا لأنهم كانوا يحاربون بشدة جيوش وليس بجيش واحد. أذكر أن كلية الحقوق بجامعة القاهرة (حيث كنت طالبا) نظمت رحلة إلى لبنان وسوريا بعد أشهر قليلة من قيام ثورة 1952 فى مصر، فوجئنا نحن الطلبة المصريين عندما قابلنا شبابا فى مثل سنِّنَا، لبنانيين وسوريين وأردنيين بما وجدنا لديهم من قوة الشعور القومي، وثقتهم بأن النجاح فى تحقيق الوحدة العربية يتوقف على قوة شعور المصريين بضرورتها، لكن ثورة 1952 لم ترفع شعارات القومية والوحدة العربية إلا بعد قيامها بعدة سنوات، وأذكر أن حماسنا إلى الوحدة لم يبدأ على نحو جدى إلا عقب تأميم قناة السويس فى يوليو 1956، ثم ازداد حماسنا للوحدة العربية عندما أعلن اتحاد مصر وسوريا وتكوين الجمهورية العربية المتحدة فى أوائل 1958، وزاد حماسنا مرة أخرى عندما قامت بعد ذلك بأشهر قليلة ثورة فى العراق ترفع أيضا شعار الوحدة العربية. كم أشعر بالحنين إلى هذه الأيام، بل أصارح القارئ بأننى يخطر بذهنى أحيانا أن هذه الفترة (1955 - 1965) كانت فترة متميزة، ليس فقط فى التاريخ العربى بل فى تاريخ العالم كله، إلى حد أنه من الممكن أن يطلق عليها وصف (الزمن الجميل). صحيح أنها الفترة التى شهدت اشتداد حدة الحرب الباردة، لكن ما العيب بالضبط فى ذلك؟ كان التنافس شديدا بين معتنقى الأفكار الاشتراكية من ناحية، وبين المتحمسين إلى النظام الرأسمالى من الناحية الأخري، لكن فى هذه الفترة ايضا ظهرت فكرة عدم الانحياز أو الحياد الإيجابي، واقترنت هذه الفكرة بنمو فكرة القومية العربية التى يسمح الإيمان بها بتحقيق العرب استقلالهم السياسى والاقتصادى والثقافي، عن كلا المعسكرين، الغربى الرأسمالى والشرقى الشيوعى على السواء، والاعتقاد بأن نجاح العرب فى تحقيق هذا الحياد أقرب إلى التحقق فى ظل الوحدة العربية مما لو ظلت كل دولة عربية منعزلة عن بقية الدول العربية فيسهل اقتناصها وضمها لأحد المعسكرين. ما الذى حدث بالضبط، فى منطقتنا أو فى العالم كله، ليجعل هذه الفكرة (القومية العربية والوحدة) أشبه بالحلم مستحيل التحقيق؟ أذكر أنى اشتركت فى حوار تليفزيونى منذ عدة سنوات، بمناسبة حدوث بعض التوتر فى العلاقة بين مصر والجزائر أثناء مباراة لكرة القدم بينهما. لا أذكر الآن سبب هذا التوتر، ولماذا أخذه الكثيرون مأخذ الجد، لكنى على أى حال عبّرت فى أثناء الحوار عن اعتقادى بأن ما حدث لا يمكن أن يمس فكرة القومية العربية والوحدة بأى سوء، فإذا ببعض تلاميذى فى الجامعة يقابلوننى فى اليوم التالى بالتعبير عن استغرابهم لموقفي، وأنى مازلت أعتقد أن الوحدة العربية مطلب جدير بالسعى من أجله، وأنه ممكن التحقيق. فلماذا لا يبدو لنا الأمر على هذا النحو الآن؟ هل نجح الأعداء فى تفريقنا؟ هل هى مؤامرة ضدنا تم تنفيذها بنجاح؟ أم أن الضعف قد استبد بكل بلد عربى على حدة حتى نسى نفسه وخسر روحه؟. لكن من نسى نفسه يمكن أن يعود لتذكرها، ومن يبدو كأنه خسر روحه يمكن أن يحدث ما يعيد إليه ثقته بنفسه ويرد إليه إرادته المفقودة. ذلك أن مقومات القومية العربية والوحدة، وإن كانت قد اصابتها سهام كثيرة، لم تصبها السهام فى مقتل. فاللغة العربية، على الرغم من كل ما تعرضت له من هوان بتأثير العولمة، وانتشار استخدام اللغات الأجنبية، مازالت تنبض بالحياة، والعادات والتقاليد العربية، وإن كانت تتعرض إلى التهديد فى كل يوم بسبب العولمة أيضا، وانتشار قيم الاستهلاك وازدياد قوة الاعتبارات الاقتصادية على حساب الاعتبارات الثقافية والأخلاقية ليس من السهل استئصالها وإحلال تقاليد وعادات أمم أخرى محلها. ما نحتاجه الآن هو أن تستيقظ صفوة الأمة حتى ترى الحقيقة كما هي، وتدرك مقدار الخسارة التى تلحق الأمة بتجاهلها هذه الحقيقة ،نعم، المهمة تقع على عاتق مثقفى الأمة، فهؤلاء، مهما تبدو درجة غفلتهم هم الأقدر على استعادة ما فقدته الأمة من ثقة بالنفس والإيمان بما يمكن تحقيقه فى المستقبل. وأظن أن «القومية العربية» مهما تكن ضراوة القوى المناوئة لها، مازالت قادرة على إثبات وجودها من جديد. لمزيد من مقالات د.جلال أمين