بالصدفة البحتة كنت فى الولاياتالمتحدة ساعة إعلان الرئيس دونالد ترامب خطته إزاء القدس ونقل السفارة الأمريكية إليها. بعدها لم يتوقف تليفونى عن الرنين حيث كان السؤال ماذا تفعل مصر إزاء هذه التطورات غير المواتية، لا للقضية الفلسطينية ولا للاستقرار الإقليمي، وباختصار للبيئة الخارجية لعملية التطور الداخلى فى مصر ذاتها. باختصار فإن ما نحتاجه من استثمارات ومن استئناف لحركة السياحة ومن استقرار فى سعر العملة لا يحدده فقط ما نفعله داخل حدودنا، وإنما ما يجرى خارجها أيضا. ففى الأغلب الأعم فإن المستثمر لا يأتى فقط إلى بلد، وإنما يأتى إلى منطقة؛ ولا يأتى سائح إلى دولة، وإنما إلى إقليم؛ وفى كثير من الأحيان فإن النيران التى تشتعل فى الشرق الأوسط تصل بأشكال كثيرة إلى مصر إن لم يكن فى شرار فيكون ذلك فى لهب. الإرهاب فى أحوال عديدة يتحرك بين بلدان المنطقة بل إن مصر تدفع ثمن هزيمة «داعش» و «دولة الخلافة» ما بين الرقة والموصل، أما القضية الفلسطينية فهى لا تترك مصر فى حالها، وعندما طرح ترامب سياسته فإنه ألح على دول المنطقة كلها بالسؤال: ماذا تفعل إزاء الخطوة الأمريكية، وهل من سبيل ألا تتحول هذه الخطوة إلى طوفان عالمى من نقل سفارات دول كثيرة إلى القدس، وهل بعد ذلك كله يمكن أن تقوم دولة فلسطينية وعاصمتها القدسالشرقية؛ وإذا لم يكن ذلك ممكنا فهل يمكن أن تعيش المنطقة كلها فى ظل انتفاضة فلسطينية ثالثة أو رابعة، بكل ما يواكبها من ازدهار راديكالي، وإرهابى لن يخص إسرائيل فى أغلب الأحيان، والأرجح أن ذلك سوف يذهب إلى «العدو القريب» أى نحن؟ رد الفعل الأولى فى مصر والدول العربية الأخرى على القرار الأمريكى هو الغضب المشروع، فهو لم يأت فى ظل التسوية الشاملة التى تحدثت عنها إدارة ترامب، وعرفت بصفقة القرن على سبيل الدعاية والترويج. وفى أحسن الأحوال فإنها جاءت على سبيل «العربون» لإسرائيل لا أكثر ولا أقل، ولكن لم يكن وراءه خطوات أخرى تجاه الدولة الفلسطينية. أغلب المقترحات فى مواجهة الأمر تقوم كالعادة على «القطيعة» و«المقاطعة» بقطع العلاقات وإغلاق السفارات مع أمريكا وإسرائيل ومن سوف يناصرهم من دول العالم وهم كثر. وحتى من كانوا يناصرون العرب أصبحت لديهم عقد خاصة منهم لها علاقة بالمصالح المائية أو النفطية، فالحال لم يعد كما كان حيث أسعار النفط تراجعت، وأن الجوائز كلها الآن تقع على الجانب الآخر حيث المال والسوق والتكنولوجيا. باختصار فإننا لم نستفد كثيرا عندما كانت معنا أوراق متعددة، وعندما استخدمناها كان من داخلنا من نسفها بعمليات «استشهادية» كان هناك دائما اعتقاد لدى جماعات منا ترى أنه يكفى المزيد من الراديكالية والأكثر من العنف الذى لا يفسد فقط عملية السلام، وإنما يحرر فلسطين، ومن النهر إلى البحر، ويعود اللاجئون، ويحصلون على تعويض أيضا عن المعاناة. لم يحدث رأى من هذا، ولكن اللوم كله عاد إلى مصر، وكم من المصريين لاموا أنفسهم، لأن مصر عرفت كيف تسترد أراضيها قبل فوات الميعاد. الأمر ربما يحتاج تفكيرا جديدا يحول القضية من صراع عربى إسرائيلى أو فلسطينى إسرائيلى تحصل فيه إسرائيل دوما على جائزة الأرض، والآن القدس، إلى حالة صريحة من الاضطهاد العنصرى فى دولة مشتركة، وشعب ثنائى القومية. الثوابت التى نعرفها هى أنه بين نهر (الأردن) والبحر (المتوسط) فإنه يوجد 12 مليون نسمة نصفهم من اليهود والنصف الآخر من العرب، مسيحيون ومسلمون. وبعد نصف قرن من الاحتلال لكامل التراب الفلسطينى أصبح هناك ثلاثة أنواع من الفلسطينيين: أولهم هم المعروفون بعرب إسرائيل وعددهم 1٫6 مليون منتشرون ما بين الجليل والقدس ومدن يافا وحيفا وصحراء النقب، ويشكلون نحو 21% من سكان دولة إسرائيل. وهؤلاء يريدون البقاء فى دولة إسرائيل، وبالطبع يريدونها أكثر ديمقراطية، كما يريدون الخروج من حالة الدرجة الثانية التى يعيشون فيها، ولكن لهم نوابا فى الكنيست ويشكلون الكتلة الثالثة فيه. وثانيهم الفلسطينيون فى الضفة الغربية حيث توجد السلطة الوطنية الفلسطينية التى تريد تسوية سلمية مع إسرائيل، وهؤلاء متفاعلون مع إسرائيل اقتصاديا حيث يعمل 150 ألف فلسطيني. وثالثهم الفلسطينيون فى غزة حيث تسيطر حماس، وحيث توجد جماعة الجهاد الإسلامى وحفنة من الجماعات الأخري. ما يجمع الثلاثة هو أنه رغم تفاوت الدرجات النضالية بينهم، فإنهم جميعا يشكلون وحدة سياسية واقتصادية بالتجارة والعملة (الشيكل) والضرائب، والتفاعلات اليومية تعاونا أو اقتتالا. وفى كل الأحوال فإن حالة إسرائيل تزدهر وتغتنى وتكسب المزيد من الأصدقاء فى العالم وتشتهر بأنها الديمقراطية الوحيدة فى المنطقة. من الواضح على ضوء كل ما سبق أن حل الدولتين لم يعد ممكنا لأن لا أحد يريد منح الفلسطينيين دولة جادة، ولا يمكن أن تقوم دولة فلسطينية دون القدس الشريف وسوف تكون بلا معنى إذا حدث، والمناضلون الفلسطينيون ينتهون دوما بعد كل موجة من موجات الثورة إلى وضع أسوأ مما كانوا عليه قبلها. وإسرائيل لم تكن استعمارا تقليديا يأتى من عبر البحار، وينتهى فى النهاية إلى حيث جاء، وإنما استعمار واستيطان جاء لأرض وتمسك بها، وليس له مكان آخر سوف يذهب إليه، فاليهود مثل الفلسطينيين لا يريدهم أحد، وأكثر من ذلك فإن العالم على استعداد لمنحهم كل شيء حتى لا يذهبون إليه. فلماذا لا نبحث عن حل آخر تكون فيه القدس عاصمة للجميع، وتكون فيها الحدود من النهر إلى البحر، ويتحول الكيان السياسى والاقتصادى القائم حاليا إلى دولة واحدة. المسألة ليست سهلة بالطبع، وهناك الكثير من التفاصيل التى تحتاج البحث والتدقيق، ولكن المرجح أن يكون التفاوض حولها أقل صعوبة من التفاوض حول حل الدولتين الذى انقضت صلاحيته على الأرض. هذه دعوة للتفكير مجددا فى القضية الفلسطينية نخرج فيها من الطرق المسدودة، و«كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة» رحم الله نزار قباني. لمزيد من مقالات ◀ د. عبدالمنعم سعيد