فى التاسع من شهر ديسمبر الحالى تحل الذكرى الخامسة والعشرين على رحيل يحيى حقى (1905 1992). ولاشك أنه يتعين علينا وعلى الحركة الثقافية كلها، أن نتذكر فى هذه المناسبة، كاتبا من أنبه وألمع الكتاب المصريين الذين قدموا للثقافة العربية، ما بين التأليف والترجمة، أدبا رفيعا، تأثر به وبأعماله التى تجمع بين الدقة والعمق أكثر من جيل يعد يحيى حقى من آبائه العظام فى الكتابة والإبداع. 25 ويحيى حقى فى إنتاجه الأدبى يتخطى الكلاسيكية والرومانسية، ولا يتمسك إلا بالموضوعية المرادفة للعلمية التى تتوجه رأسا لموضوعها، وتقتصد فى التعبير عن مضمونه اقتصاده فى البناء والأسلوب على النحو الذى يمنح أدبه تفرده، وواقعيته، وشاعريته. .......................................... وعن اللغة يرى يحيى حقى أن العربية كالإنجليزية والفرنسية تعد من اللغات الأكثر قدرة على التركيز والايحاء، ما يجعلها صالحة لمخاطبة = بأسرها. وبهذه الخصيصة التى يدركها جيدا كبار الكتاب، ويدركون انها لا تزوى أبدا، يتحقق النضج الفنى الذى تختفى فيه المعانى بين السطور ويتحدد الفكر. أما عن مادة الفن فإن يحيى حقى لا يفرق بين الجميل والقبيح، لأن المعول عنده فى التناول قوة الأسلوب لا نوعية الموضوعات هذه القوة التى تنبع من باطن النص، ومن ادراجه فى الأطر المحكمة. وقوة الأسلوب هى التى تدفع يحيى حقى إلى كتابة الجملة عشرات المرات حتى يطمئن إليها، وأن كل كلمة فيها، فى مكانها الصحيح، وليس لها بديل. ومع هذا لا يستغنى قط عن مراجعة وتنقيح ما يكتبهبعد أن ينتهى منه. وهذا ما كان يدفعه إلى التنقيب فى مسودات الكتاب العالميين وفى رسائلهم الخاصة، فى المكتبات والمتاحف لكى يستشف منها أسرار الصنعة من خلال ما فى أوراقهم من حذف أو إضافة أو تعديل. ذلك أن المبدع هو الذى يخضع فى المحل الأول للمقاييس الفنية، وليس للمقاييس الأخلاقية التى تقوم على الوعظ والارشاد. ومن الغريب أن يكون ليحيى حقى هذا الولع باللغة وهذا الاحتفال بالأسلوب الذى نطالعه فى كتبه، ولا يكون عضوا فى مجمع اللغة العربية، الذى رأسه طه حسين، ووصف إحدى قصص يحيى حقى بأنها «قطعة من الأدب الممتاز الرائق حقا». ويقينى أنه لو ضم إلى مجمع الخالدين الذى من غاياته أن تفى اللغة العربية بحاجات العصر، لخدم اللغة العربية خدمة ما كان يمكن أن تتيسر لغيره من أعضاء المجمع المائة والخمسين لأنها تصدر عن فنان يعيش ماضيه وحاضره بكل أبعادهما ولا يتحرج من أن يعلن أن الفصحى تفيد من إبداعات العامية التى يتحدث بها الشعب، وتؤدى إلى إثراء الفصحى بما تحمل اللهجات الدارجة من واقعها اليومى. وهنا يجب أن نذكر معرفة يحيى حقى للعالم اللغوى والمحقق محمود محمد شاكر، واتصاله به منذ سنة 1939، إذ كانت هذه المعرفة التى قرأ فيها معه أمهات الكتب القديمة على حد قول يحيى حقى حدا فاصلا بين كتاباته قبل هذه المعرفة وبعدها. إنها الكتابة المحايدة الفعالة، التى يتلازم فيها الجمال مع النفع، وتنهل مما ينبض به قلب الكتاب من غنائية، لا مما تحويه هذه الكتابة من قيم شكلية وبلاغة سطحية تفسد الفن بطغيان اللفظ على المعنى. وبهذه الرؤية أو بهذا المنهج الذى يمنح الجمال القبح والرذيلة يتفق يحيى حقى مع ديكارت فى القرن السابع عشر فى أن الجمال نسبى ويعنى به أنه ليس هناك جمال مطلق أو قبح مطلق وانما الجمال والقبح متغيران والتغير رهن بالمتلقى الذى يقع عليه التمييز بينهما. ولكل فرد ذوقه الخاص، ومقاييسه المختلفة لا فرق بين أمير وخفير أو بين عالم وجاهل. وعلى هذا الأساس لم يكن يحيى حقى ينفى عن الأميين، الذين يجهلون فك الخط، المعرفة والخبرة والحذق، لأنها مرتبطة فى مفهومه الخاص ينضج العقل الذاتى ورهافة الحس والذوق، والتعثر فى نطاق العامية أو سذاجتها لا يتعارض مع سحرها. من هنا كان يحيى حقى ينفر من فكرة النجم أو البطل الأوحد الذى يستأثر بالصورة، ويفضل له أن يندمج فى غمار الخلق. وكان اهتمامه الأكبر فى الكتابة بالأسماء المجهولة والغلابة والفقراء، الذين يعيشون فى الظل أو على الهامش، لا يشعر بهم أحد، رغم أنه فى حياته العامة كسفير ووزير مفوض كان على صلة برؤساء الدول والسلاطين وكبار الشخصيات ممن لهم شأن فى الثقافة والسياسة وهم فى عز مناصبهم، لم تنحسر عنهم الأضواء. وكان من بين هذه الشخصيات الملك فؤاد والملك فاروق. وأكثر ما كان يحيى حقى يضيق به فى الأعمال الفنية افتقادها للأصالة والتلقائية والصدق، والنزعة الخطابية، والتبسيط المخل، وعدم التجويد والاتقان. غير أنه مع حرصه الشديد على التجويد والاتقان كان يشترط على الأعمال الفنية الا ينعكس عليها شيء مما بذل فيه من جهد وعرق. وعندما كان يحيى حقى يرأس تحرير مجلة «المجلة» التى تعد أفضل المجلات المصرية فى النصف الثانى من القرن العشرين، لم يكن يطمع ككل الليبراليين فى أن يتجاوز تأثيرها النخبة أو الصفوة المثقفة التى تقود الأمة فى كل ميادينها، بغض النظر عن انها لا تحفل عادة بالتغيير الجذرى، ولا تأبه بتذويب الفوارق بين الطبقات. ........ وعلى الرغم من أن الصراع أو الصدام بين الشرق والغرب شغل الأوطان العربية فى تاريخها الحديث فلم يستطع أحد سواه أن يصور هذا الصراع الدرامى بين التقدم والتخلف مثلما فعل يحيى حقى فى درته «قنديل أم هاشم» التى ترجمت إلى كثير من اللغات وارتبط اسمه بها. ذلك أنه عرف فى هذه القصة كيف يضع هذه الأشكال على محك حضارة العصر، اشكال الهوة الواسعة بين مصر والغرب من غير أن تتخلى مصر عن ماضيها العريق وفى الوقت نفسه لا تعادى الحداثة بأن تأخذ من أوروبا علمها واستنارتها وتمزجه بموروثات الشرق وتقاليده الذى يؤمن بأثر زيت القنديل فى شفاء الأدواء. كتب يحيى حقى قصته فى 1944، والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها ومصر تتأهب لمرحلة جديدة من حياتها، تتطلع فيها لنظام جديد، لا تخضع فيه للأصولية الدينية من جهة، ولا لعقائد اليسار المادية من جهة أخرى. وهكذا تنتفى أسطورة أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا. وهى قضية أو مقولة واجهتها على سبيل المثال روسيا القيصرية فى القرن التاسع عشر ونشب فيها الخلاف وثار الجدل بين دعاة القومية السلفية، ودعاة الانفتاح على مدنية الغرب، أو على مدنيات الغرب والشرق الأوسط والأقصى فى آن واحد. ويمكن أن نجمل الموقف فى ضرورة الجمع بين الوجدانية المتوارثة والتكنولوجيا المحدثة، أو فى التحليق فى الآفاق العالمية دون الانفصال عن أرض الوطن. ........ ولم يكن تقدير يحيى حقى التراث العربى يحول دون تقديره للفنون الشعبية التى تتمثل فيما أنشأ من فرق تعبيرية للرقص الشعبى والعروض الاستعراضية والموسيقى والغناء. وقد سبق تكوين هذه الفرق بحوث فى ربوع مصر، جاب فيها أهل العلم كل أقاليمها، شاهدوا فيها الرقص الفردى والثنائى والجماعى، واستمعوا إلى الأغانى التى تصحب مواسم الحصاد والأعراس والمناسبات الدينية، واختاروا منها المواهب المغمورة التى تشكل فرقة ترعاها الدولة، قدمت على مسرح دار الأوبرا فى 1956، حين كان يحيى حقى مديرا لمصلحة الفنون، أوبريت «يا ليل يا عين» إعداد توفيق حنا بالاشتراك مع الكاتب المسرحى على أحمد باكثير، وفيها تغلبت الصياغة على الأشكال التقليدية القديمة والغربية التى تحاكى فنونها، تلك التى كانت سائدة، وهى صيغ تتعالى على ما هو موصول بالبيئة الشعبية التى تتطلع إلى النهوض بالمجتمع، وتحقيق استقلاله وحريته. و«يا ليل يا عين» أسطورة شعبية تتناول قصة حب الفتى «ليل» ابن ملك البحر لبنت السلطان «عين» ست الحسن. وقد قام بدور ليل محمود رضا، وبدور عين نعيمة عاكف. وفى هذا السياق الذى ملأ حياتنا بالبهجة عقدت الاتفاقيات الثقافية بين مصر وبعض الدول الأجنبية مثل الصينوروسيا لتبادل الفرق الفنية المعبرة عن وطنها. كما اهتم يحيى حقى فى هذه المرحلة أيضا بالسينما من خلال تأسيس نادى السينما، بعد أن بدأ بعقد ندوة الفيلم فى حديقة قصر عابدين، واتجه التفكير لإنشاء معهد علمى للفنون الشعبية كان له دوره فى تدعيم هذا الاتجاه الشعبى فى الآداب والفنون المصرية. ........ وعن الترجمة التى أحبها ومارسها لم يكن يحيى حقى يطمئن إلى صحتها وتأثيرها فى ثقافة الأجيال الجديدة، لأنها غالبا ما تكون تقريبية، لا تطابق نصوصها الأصلية، والأدب الإنسانى أو العالمى لا يحتمل هذا النوع، لأن الترجمة التقريبية بالغة الخطر. كان يحيى حقى يريد للترجمة أن تكون أدبية، تعيد للنصوص بيانها الأصلى بلا تصرف، ولا تكون شرحا أو تفسيرا أو تلخيصا يفتقد السليقة التى يعرف بها، ويتحول فيها المغزى السلبى على يد المترجم إلى مغزى إيجابى، والمثبت إلى منفى، والحمد لله أنه لم يقل تحويل الحق إلى باطل، أو العكس. ........ ونقد يحيى حقى نقد جمالى، ينتمى للتأثيرية أكثر من انتمائه للمذاهب النقدية الأخرى التى كان يحيط بها إحاطة تامة. والدليل أن فى هذا النقد ما يتطابق أحيانا مع النقد الأيديولوجى للواقعية، التى تربط الأدب بالحياة. ........ وعلى كثرة الكتاب والنقاد الذين كتبوا بمنتهى التقدير المقالات والفصول والكتب عن يحيى حقى، وعقدوا الحوارات معه، فإن ما كتبته نهى يحيى حقى عن أبيها له طعم خاص، لأنها تشربت منذ طفولتها روح هذا الأب، وتعلقت به وبمن التف حوله من المثقفين وأدركت بعد رحيله أنه يتحتم عليها المحافظة على تراثه المنشور والمخطوط، ومساعدة كل من يريد أن يعد الدراسات عنه، أو يريد إحياء ذكراه، أو طلب الإذن بترجمة مؤلفاته، سواء من الأفراد أو الهيئات العامة، ليس فقط من قبيل بر الابنة بأبيها، أو لصلة الرحم التى تربطها به، وما نعمت به من العيش معه، ولكن لإدراكها الصحيح بأن القيم الفنية الرفيعة التى يمثلها يحيى حقى فى الثقافة العربية، بما كتبه ودعا إليه، تستحق أن تصان، وعليها قبل غيرها يقع هذا العبء، فى مرحلة تاريخية تغيب فيها الجهود الثقافية التى يقع عليها أداء هذه الرسالة.