طوال فترة أزمتى قناة السويس وتمويل السد العالى، ظل موقف السودان فى بؤرة اهتمام بريطانيا، وسعت الحكومة البريطانية لاستغلال الخلافات المصرية- السودانية المستمرة منذ أواخر الأربعينيات، والتى تصاعدت فى أواخر عام 1954 بشأن شروط قبول السودان الخطة المصرية لبناء السد العالى. ففى 30 ديسمبر 1955 أبلغت بريطانيا السودان بأنها سوف تقرن أى إسهام لها فى مشروع السد العالى بتسوية مع مصر تلقى رضا الخرطوم. وكانت خلافات البلدين تتعلق بالتالى: حصص توزيع المياه بعد بناء السد، التعويضات التى يجب أن تدفع لأهالى وادى حلفا الذين سوف يتضررون من المشروع، ومصير مشروع السودان لبناء سد الروصيرص على النيل الأزرق، المصدر الرئيسى لمياه النيل الرئيسى المتدفقة إلى الأراضى المصرية. وبعث مكتب رئيس الوزراء البريطانى «أنطونى إيدن» ببرقية سرية موجزة إلى الخارجية، قال فيها: «اطلع رئيس الوزراء على برقية الخرطوم رقم 353 بشأن مياه النيل، وعلق: لكن لسنا ملتزمين بالمساعدة فى مشروع السد مالم يلق السودانيون معاملة منصفة من جانب مصر. ولابد، بالتأكيد، أن نبلغ السودانيين ذلك، أو شيئا من هذا القبيل.. أيه. إى (أنطونى إيدن) 29 ديسمبر». وقبل إرسال هذه البرقية، قُدم لرئيس الوزراء تقرير بعنوان: «المنافسة المصرية السودانية» بشأن نهر النيل، وقال التقرير: «الحكومة المصرية ملهوفة للغاية للمضى فى المشروع (السد العالى) لأسباب منها السمعة السياسية التى سوف يحققها لنظامها، والمنافع الاقتصادية التى سوف يجلبها السد لمصر. وسوف يروى أكثر من مليون فدان من الأرض الجديدة ويوفر طاقة كهربائية جديدة. وسوف يزيد دخل مصر الوطنى بحوالى 150 مليون جنيه استرلينى سنويا». وفى برقية مؤرخة ب 28 ديسمبر 1955 قالت السفارة البريطانية فى الخرطوم: «مستشار الرى لدى الحكومة السودانية أطلعنى فى سرية شديدة على خطاب من وزير الأشغال العامة المصرى إلى وزير الرى السودانى. والحكومة المصرية فى هذا الخطاب: ترفض طلب قرض المياه الموسمى وفق النظام الذى منح به فى السنوات الأخيرة. تؤكد أنهم يدرسون بنود اتفاقية مياه النيل لعام 1929 الملزمة للسودان. ترفض الإذن ببناء الروصيرص. تقرر أنها تعتبر نفسها غير ملزمة بأى عرض طُرح فى المفاوضات الأخيرة مع السودانيين. وخلصت البرقية إلى التالى: «آفاق التوصل لحل سريع للخلافات بين الحكومتين المصرية والسودانية تبدو الآن أبعد من أى وقت سابق. وسوف يُرجع السودانيون بلا شك التصلب المصرى الحالى لحقيقة أنهم طُمئنوا الآن بشأن التمويل اللازم لتمكين العمل فى بناء السد العالى من البدء. وفى 30 ديسمبر 1955، بعثت لندن برسالة تطمين للخرطوم بأنها تدعم موقفها فيما يتعلق بالسد العالى. ووجهت الخارجية البريطانية سفيرها فى السودان بأن ينقل الرسالة التالية: «نظرا لأن السودانيين يرجعون التشدد المصرى بشأن مياه النيل إلى حقيقة أن مصر ضمنت الآن التمويل لبدء العمل فى السد العالى، أرجو أن توضح بشكل سرى للسودانيين المسئولين، إن لاحت فرصة، أن أى مساعدة مالية إضافية لمصر من حكومة جلالتها وحكومة الولاياتالمتحدة لاستكمال الجزء الثانى والرئيسى من المشروع سوف يعتمد على أمور من بينها حل مرض لنزاع مياه النيل». وعندما طلب رئيس الحكومة، فى 4 سبتمبر 1956، من الوزراء والأجهزة المختصة تزويده بالدراسات وتقارير تقدير الموقف بشأن إمكانية استخدام مياه النيل سلاحا فى الصراع مع عبد الناصر بشأن قناة السويس، كان السودان جزءا أساسيا من هذه الدراسات. وبعد يوم واحد من التكليف الصادر عن إيدن، طلبت الخارجية من بعثتها فى الخرطوم تقديرا لموقف السودان من الخطة المحتملة، وردت البعثة ببرقية سرية بعنوان «قناة السويس»، ونبهت لندن إلى أن مجلس الوزراء السودانى اجتمع 4 مرات خلال 4 أيام لبحث موقف وسياسة السودان فيما يتعلق بقناة السويس. وقال المفوض التجارى للمملكة المتحدةبالخرطوم فى البرقية: «قال رئيس الوزراء السودانى لى اليوم إنه لا شك فى أن الحكومة السودانية سوف تلعب دورا فاعلا فى حالة اندلاع أعمال عدائية. وبغض النظر عن أى سبب آخر، فإنه ليس لديهم قوات للدفع بها. نصف الجيش فى الجنوب والنصف الآخر فى التدريب. كما لا ترغب الحكومة السودانية فى تعريض علاقاتها بالغرب للضرر». وأضاف: «جاءت الأزمة فى وقت بالغ السوء بالنسبة للسودان. السودانيون لا يحبون المصريين، غير أنهم لا يمكنهم فى الوقت الراهن تحمل أن يظهروا أى شيء غير الود. ولأن مشكلات كبرى مثل العملة، ومياه النيل، والجمارك والهجرة لا تزال دون تسوية، ويجب على الحكومة السودانية أن تدعم مصر فى العلن، وهناك 350 ألف سودانى فى مصر هم -كما ألمح ( رئيس الوزراء السودانى)- عرضة للاستغلال». غير أن رأى الحكومة السودانية كان، وفق البرقية، سلبيا فى سياسة بريطانيا وفرنسا تجاه أزمة القناة، حيث جاء فى البرقية: «فى الوقت نفسه، تشعر الحكومة السودانية أن الخط الذى اتخذته حكومة جلالتها والحكومة الفرنسية كان قاسيا بدون داع، ما جعل الدعم السودانى لمصر أسهل». وتكشف البرقية عن أن السودان عرض على مصر أفكارا لحل الأزمة، معتقدا أنه لو رفضها المصريون فسوف يتحملون العواقب. وقالت: «رئيس الوزراء غير راغب فى توضيح المقترحات بالتفصيل، غير أنه قال إن الحكومة السودانية تشعر بأنه يجب نزع أيدى البريطانيين والفرنسيين والمصريين من النزاع، لمنع حدوث انفجار. وقال إنه يجب أن تتولى الأممالمتحدة تسويته». ودرست وزارة الخارجية آثار أى تدخل بريطانى فى مياه النيل على السودان، وقالت فى تقريرها: «سوف تصبح الملاحة فى النيل بين جوبا ومونجالا صعبة إن لم تكن مستحيلة. وسوف تتأثر الزراعة، والقطن بشكل رئيسى، على طول النيل الأبيض بين كوستى وجبل أولياء، لو قُيدت عملية ملء خزان جبل أولياء، وسوف يزيد التأثر بشكل أكثر خطورة لو اضطر المصريون لإفراغ الخزان مبكرا من أجل التخفيف من نقص المياه فى الشمال». وأضاف التقرير: «ربما يكون هناك شك قليل فى أن رد الفعل من جانب سكان أوغندا والسودان على التقييد من جانب حكومة جلالتها على تدفق النيل من أجل ممارسة الضغط على مصر سيكون حادا وعدائيا. وسوف يتصاعد العداء بفعل أى صعوبات اقتصادية تنتج عن ذلك الضغط». ولهذا، أصرت وزارة الدفاع البريطانية على معرفة الرؤية السودانية بدقة، وقالت فى تقديرها للموقف بناء على طلب رئيس الوزراء: «موقف السودان من أى إجراء مقترح مهم، خصوصا إذا أدى هذا الإجراء إلى عمليات عدائية». وأرجع تقرير الوزارة هذه الأهمية إلى توابع خطة وقف مياه النيل الأبيض إلى إحدى نتائج دراستها وهى: «سيكون هناك أيضا صعوبة محتملة فى الملاحة بالبحيرات والأنهار المتفرعة من النيل الأبيض فى أوغندا والسودان ما دون شلالات أوين، بسبب قلة المياه، وهذا قد يؤثر أيضا على الجانب البلجيكى من بحيرة ألبرت بدرجة طفيفة، وقد يكون هناك أيضا صعوبة فى ضمان إمدادات المياه للخرطوم خلال الموسم فى هذا الوقت». واقترحت الخارجية حشد الدعم لعقد مؤتمر دولى بشأن وادى النيل، وحسب تقرير الوزارة فإن: «مثل هذا المؤتمر تم اقتراحه فى الأصل من جانب الأمريكيين فى شهر يونيو كوسيلة للمماطلة فيما يتعلق بقرارنا عدم بناء سد أسوان العالى لناصر». وقال التقرير: «من المرجح أن تلقى الفكرة تأييد السودانيين والإثيوبيين.. الفكرة سوف تلقى كل من جانبى البرلمان.. لأننا سنكون مؤهلين للمشاركة بحكم مسئوليتنا عن أراضى شرق إفريقيا البريطانية، ولذا فإنه يجب أن نستمر فى أن يكون لنا رأى مباشر فى شئون النيل»، واقترحت الوزارة عرض القضايا التالية للنقاش فى المؤتمر المقترح: «خطط التنمية الشاملة للنيل.. تقسيم مياه النيل والمراجعة التى تترتب على ذلك لاتفاقية مياه النيل عام 1929.. إنشاء هيئة للإشراف على تنفيذ الخطط والتقسيم». وكشف التقرير عن أن السودانيين يعملون حثيثا على خطة للتنمية الشاملة للنيل، وقال: «يضع الخطة الآن مستشارهم لشئون الرى، السيد موريس، ويجب أن تكون جاهزة للنقاش بحلول صيف 1957. وتتيح الكثير من المزايا. ويرعاها السودانيون. ويبدو أنه لا منافس لها (غير مشروع سد أسوان العالى) فى الساحة. ويجرى إعدادها بالتعاون الوثيق مع أوغندا». وكشف أيضا عن أنه :»بإتاحة انتشار سدود التخزين فى أنحاء أراضى عدد من الدول، لن تعطى الخطة مصر الموقع المهيمن الذى سوف تستمده من إنشاء سد أسوان العالى»، وحسب نصيحة الخارجية بشأن الخطة، فإنه «يبدو وكأننا يجب أن نؤيدها»، غير أن نصائح الوزارة شملت أيضا الامتناع عن أن تظهر بريطانيا فى الصورة فى حال اتخاذ قرار بشأن عقد المؤتمر، وقالت: «لا يمكن لحكومة جلالتها أن تدعو لعقد المؤتمر فى الظروف الحالية»، فمن هى الجهة الأقدر على طرح الفكرة؟. أجابت الخارجية قائلة: «السودانيون فى أفضل وضع يتيح لهم فعل ذلك، وربما يشجعهم الأمريكيون على الإقدام على ذلك بالتلويح بطعم المعونات المالية للتنمية»، وحسب هذه الرؤية، فإن «هذا سوف يبرر مشاركة الأمريكيين أنفسهم ومشاركة البنك الدولى، الذى يجرى السودانيون بالفعل الآن اتصالات معه بشأن قرض لتمويل بناء سد الروصيرص بقيمة 21 مليون جنيه استرلينى». متى يمكن أن تتم الدعوة لعقد المؤتمر؟ تقول الخارجية: «ربما تتم الدعوة إلى المؤتمر فى صيف عام 1957، عندما يكون السودانيون مستعدين بخطة للنقاش، ولكن كلما تم التعجيل بإرسال الدعوات كان أفضل»، وحذرت من انتباه المصريين أو تغير الظروف مما يجهض الخطة، وأوضحت: «لو أجلنا، ربما يأخذ المصريون المبادرة بمحاولة الترويج لترتيب ما أقل مقبولية، أو قد يؤدى تحول ما فى السياسة إلى اتفاق ثنائى مسبق مع السودانيين». واقترحت أنه: «يجب أن يشمل المدعوين مصر وإثيوبيا وحكومة جلالة الملكة (بما فى ذلك ممثلون عن أوغندا وكينيا) والولاياتالمتحدةالأمريكية والبنك الدولى»، وتوقعت الخارجية أن يستغل السودانيون المؤتمر كى يطرحوا بقوة فكرة إعادة النظر فى حصص توزيع مياه النيل، وقالت: «سوف يتجه السودانيون إلى إثارة تقسيم مياه النيل. وسيكونون جاهزين بأرقام محددة، ويجب أن يكون لدى حكومات شرق إفريقيا شيئا جاهزا بحلول وقت انعقاد المؤتمر. ومن غير المحتمل أن يكون لدى الإثيوبيين حتى أرقام تقريبية متاحة. ويجب أن يؤخذ ذلك فى الاعتبار فى أى اتفاق يتم التوصل إليه، غير أنه لا يجب أن يستخدم ذلك لتبرير تأجيل مشروعات الرى الحيوية للدول الأخرى». ونصحت خارجية المملكة المتحدة بأن تدعم بريطانيا الموقف السودانى، وقالت: «لابد أن نكون مستعدين لتأييد أى مقترحات سودانية معقولة لتقسيم المياه ولإعادة النظر، مراعاة لمصالح أراضى شرق إفريقيا (البريطانية) فى اتفاقية 1929». وترجع أهمية هذه الاتفاقية، الموقعة بين مصر وبريطانيا، إلى أنها تؤكد حق مصر بالموافقة على أى مشروعات أو أشغال على نهر النيل من شأنها خفض كمية المياه الواصلة إلى مصر أو تعديل تاريخ وصولها أو تقليل مستواها بطريقة تضر بحقوق مصر، وتم اختيار هذه الاتفاقية بالتحديد للمراجعة نظرا لثقة بريطانيا المسبقة فى اعتراض السودان الدائم عليها. وتستند هذه الثقة إلى تقرير مرسل من السفارة البريطانية بالخرطوم فى شهر ديسمبر 1955، ويقول المفوض التجارى البريطانى فى البرقية: « فهمى أن وزير الرى السودانى سوف يُنصح بأن يضغط للانسحاب من اتفاقية 1929 بمجرد الاعتراف الفورى بالاستقلال. فالسودانيون لم يقبلوا أبدا بأن هذا الاتفاق ملزم لهم، ولديهم سبب ما للاعتقاد بأن المصريين أيضا يعتبرونه غير مطبق». وفى نوفمبر 1956، زودت الخارجية البريطانية رئيس الحكومة بنتائج استطلاع للمواقف فى الدول الرئيسية المعنية بالتخطيط بعيد المدى لوادى النيل، وفيما يتعلق بمصر، نصحت السفارة البريطانية فى القاهرة بربط أى دعم مالى لمشروع مصر الاستراتيجى بتسوية خلافات نظام حكم عبد الناصر مع الغرب، وقالت: «من المرجح أن تفضل أى حكومة مصرية (المضى فى) مشروع سد أسوان العالى، ويجب علينا مساعدتهم فى بناء السد، شريطة أن يكونوا مستعدين للتعاون مع الغرب وأن يركزوا مواردهم (للمشروع)». وفى تقريرها بشأن السودان، أوصت السفارة البريطانية فى الخرطوم بألا تكون بريطانيا «ملكية أكثر من الملك» فى دعم الموقف السودانى من الخلافات مع مصر بشأن تقسيم المياه وإنشاء السدود، وقالت: «من غير المحتمل أن يحاول السودانيون التوصل إلى حل قائم حصرا على مصالحهم الوطنية بغض النظر عن مصالح الآخرين. وفى دعمنا لهم، يجب أن نحرص على ألا نكون ملكيين أكثر من الملك». وفيما يتصل بمشروع السد العالى، قالت السفارة: «لا يجب أن يُعطى للمصريين مليما واحدا لتدبير تكلفته، حتى يتم التوصل لاتفاق بشأن تعويض السودانيين لتغطية تكلفة إعادة توطين سكان وادى حلفا (الذين أثر مشروع السد العالى عليهم)»، وبشأن الدعم المائى، قالت السفارة: «السودان منتج غذاء هائل محتمل. سيكون من الحكمة أن نزيد الرى بالنسبة للسودان من أن نوفر المياه لرى هامشى فى مصر.. ولأسباب سياسية، يجب أن يكون لمصر نصيب عادل (من المياه) بشكل واضح، ولكنه يجب أن يحصل السودان حتى على أكثر من نصف ال 32 مليون متر مكعب الفائض المتاح». فى الحلقة الأخيرة من الوثائق البريطانية نكشف قصة التحول فى موقف لندن من النزاعات على مياه نهر النيل.