أحسَب سطور هذا المقال من السطور و الكلمات التي حيرتني قبل كتابتها، و في بعض الأحيان عجزت أن أجد نقطة البداية، حتى وجدتها في رسم حرف النون.. إنها تلك النقطة التي تعلو القوس المقعر فيحتضنها كرحم أم آمن يحوى النطفة و يبث فيها من صفاته، فيقدِّر لها الخالق كل شيئ، و تكتب لها الحياة فتبعث من العدم إلى الوجود، و تنبت و تثمر الموجودات، إنها تلك النقطة التي شابهت النجمة المشعة التي يحتضنها الهلال النحاسي أعلى مآذن و قباب كثير من مساجد الأرض. ....................................... (نون) في القرآن هي بداية سورة القلم : «بسم الله الرحمن الرحيم: ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ» و هي من فواتح السور التي اختلف المفسرون في تفسيرالحروف المقطعة التي في أولها، و منهم من قال «هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله»، و يقال أيضاً إن (نون) هو إسم الحوت الذي إلتقم نبي الله يونس عليه السلام ﴿وذا النون﴾ - الأنبياء/87 ، كما إن (نون) معناها الأسماك أو الحيتان في اللغة العبرية القديمة ، و قد قال الإمام أبو جعفر بن جرير إن المراد بقوله : ( ن ) حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل للأرضين السبع . و عن (النون) قال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم قال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر . فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة . ثم خلق « النون « ورفع بخار الماء ، ففتقت منه السماء ، وبسطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض . (تفسير ابن كثير). و في حديث آخر رواه ابن عساكر ، عن أبي عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق « النون « وهي : الدواة . ثم قال له : اكتب . قال وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون - أو: ما هو كائن - من عمل ، أو رزق ، أو أثر ، أو أجل. فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله»: ن والقلم وما يسطرون « ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ، ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ، ولأنقصنك ممن أبغضت.» هكذا كان تفسير المفسرين للنون في القرآن الكريم، و هو أمر محير يدفع إلى التفكر في خلق الله و آياته، والذي لا يعلم علمه المطلق إلاّ الله عز وجل، ولكن أمر آخر انتبهت له أثناء زيارتي الأخيرة للمعابد المصرية القديمة و هو تفسير العلماء و المؤرخين لبعض نقوش المصري القديم التي ذكرت (نون) ولم تغفله بل وقدسته و جعلت من (نون – NUN) أبا الألهة أو الإله الأكبر أو كما فسر الكاتب البريطاني آلان ألفورد Alan F. Alford في (كتابه هرم الأسرار-Pyramid of Secrets)، (نون) بالخضم الأزلي الذي انبثق منه كل شيء.. قاع الوجود .. بحر من الظلام , ليس له شكل و لا سطح و لا توجد به أية اتجاهات يحوى بداخله كل الموجودات، هى منبع نهر النيل , و هي المحيط السماوى وهى أصل كل الموجودات هى الأم أو الرحم الكونية التى خرجت منها كل الأشياء ... الأرض و السماء و الشمس و القمر و النجوم والمحيطات والبحار التي سبقت خلق الكون. حينئذ تجلى إلى الذاكرة النص القرآني: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا).هود/7 ، فهذا خبر من الله تعالى أن عرشه سبحانه كان على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن، ولا ينفي أنه مازال كذلك. وروى البخاري (2953) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن نَاسا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ سألوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالوا : جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ ؟ قَالَ : ( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ). و في معبد (أبيدوس) يوجد نقش للأله (نون-NUN) يخلق المياه ويرفع مركب الإله (رع) إلى السماء وقت الخلق و بجواره ثمانية آلهة (أربعة يمينا و أربعة يساراً) ، فمن هذه المياه خرجت كل الموجودات ، و برؤية شخصية ربما تكون غير ذي علاقة و لكن هذا يشبه الشمس في المنتصف و من حولها كواكب المجموعة الشمسية. كل ما سبق ذكره أثار فضولي لمعرفة تفاصيل أكثر و أكبر قيمة عن العصور القديمة و تأويل ما ترك المصري القديم على جدران المعابد على الرغم من أنني غير مولع بعلم المصريات، و لكنني كنت على دراية بأن المصري القديم نشأت عقيدته على التوحيد و أن نبي الله (إدريس) عليه السلام هو من تعود إليه أقدم نصوص التوحيد في مصر القديمة (المتون القديمة) و هو أول من خط بالقلم تاركاً ورائه تراثا هائلا من التوحيد توارثه المصريون عبر العصور القديمة. و كنت أيضاً على دراية بأن من يسجل التاريخ و ينحت المنحوتات و ينقش النقوش هم أقوياء العصر، و عادة الأقوياء هي أن يبرزوا ما يتوافق مع مصالحهم و أن يمحوا كل ما يتعارض معها، وهذا ما أكده كتاب (قدماء المصريين أول الموحدين) للدكتور (نديم السيار)، الذي تحدث و كتب عنه (د. مصطفى محمود) -رحمه الله- في جريدة (الأهرام) ، و لعل من أبرز النصوص التي لفتت نظري في هذا الكتاب ذلك النص الفريد الذي دونه المصري القديم ببردية مناجاة محفوظة بالمتحف البريطاني: «أنت الإله الأكبر.. سيد السماء والأرض.. خالق كل شيئ.. يا إلهي وربي و خالقي.. قوِ بصري و بصيرتي لأستشعر مجدك.. واجعل أذني صاغية لأقوالك» و إذا أمعن الناظر والقارئ التفكير فيما ترك المصريون ورائهم من دلائل و رموز وقارنها بما ورد في القرآن و الأحاديث النبوية الشريفة، و الكتب المقدسة عند سائر الأمم، فسيهتدي إلى أنهم لم يقفوا فقط عند عبادة الإله الواحد ولكنهم قد علموا و تعلموا ، و لم تكن حدودهم ضيقة و لكنها اتسعت إلى نشأة الكون و امتدت إلى قيام الساعة و الثواب و العقاب و الحياة الأخرى الأبدية و التي استحقت منه كل الاهتمام فكانت المعابد و القبور هي الباقية من آثارهم إلى الآن ولا نكاد نرى لهم قصوراً كأباطرة التاريخ. و لهذا كله فلا عجب أن يتشابه تفسير (ن) القرآن مع تأويل (ن) الفرعونية القديمة، و لكن مع تباين مهم جدا و هو أن ما يسطره البشر قد يحرَّف أو يتبدل بمر العصور و ربما يفتن به البشر فيعظموه و يشوبه أساطير مختلقة (مثل نظرية تاسوع إله هليوبوليس) و غيرحقيقية، و ربما يخطط له أو يوظف لخدمة حاكم