ذهبت إلى بيروت محملا برغبة فى «استراحة» من وطأة الأزمات السياسية والحروب المشتعلة، إلا أن المؤتمر الرفيع المستوى حول تقييم تغير المناخ والتكيف معه فى المنطقة العربية أعادنى والحاضرين إلى سخونة الأجواء العربية. وهنا قبل الغرق فى التفاصيل فإن منظمة الاسكوا التابعة للأمم المتحدة قد أسهمت بجهد كبير مع عشرة شركاء آخرين أبرزها الجامعة العربية ومنظمة الأممالمتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) والوكالة الألمانية للتعاون الدولى والمركز العربى لدراسات المناطق الجافة والأراضى القاحلة فى تحويل المبادرة الإقليمية لتقييم أثر تغير المناخ على الموارد المائية وقابلية تأثر القطاعات الاجتماعية والاقتصادية فى المنطقة العربية المعروفة باسم «ريكار» إلى واقع، والآن نحن نواجه أول وأخطر دراسة علمية لواقع العالم العربى، وهذه الجهود بدأت منذ 2009، ولاتزال مستمرة. وأحسب أن المناقشات العميقة التى شارك فيها 6 وزراء مياه من العالم العربى تدق «أجراس الانذار»،، وهنا محاولة لرصد أبرز الموضوعات الكثيرة التى جاءت فى داخل المؤتمر الذى استمر 3 أيام، وما دار فى أروقته. ولعل أبرز الملاحظات ما قاله حسن الجنابى رئيس المجلس الوزارى العربى للمياه ووزير الموارد المائية فى العراق من أن المنطقة العربية ليست «محصنة» خاصة فى مجال الأمن الغذائى والمياه وأن 70% من المياه تأتى من دول الجوار، وأن عملية السدود باتت مشكلة على الأنهار وفى الحالة العراقية فإن هناك خمسة سدود فى تركيا وسدود فى سورياوالعراق. وتوقف ليؤكد أن عمليات التشغيل أخطر من «التغير المناخى» ومن جانبه قال شكرى ابن حسن كاتب دولة للشئون المحلية والبيئة بتونس إن الطلب على المياه يتزايد بقوة، وأن بلاده دولة فقيرة مائيا، وأن ذلك «أخطر تهديد» تواجهه تونس. وتناول الوزير اللبنانى للطاقة والمياه سيزار أبى خليل نقطة مهمة تتعلق بتجربة بلاده مع المياه، فأوضح أن الشبكات كانت قديمة وتهدر «50% من المياه»! وقال إنه جرى تحديث الشبكات لمعالجة هذه المشكلة. ومن جانبه يتفق محمد على الحكيم وكيل الأمين العام للأمم المتحدة والأمين التنفيذى للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربى آسيا (الاسكوا) بشأن «ثقافة استخدام المياه»، وقال الحكيم إنه يرى أن المياه سوف تصبح «سلعة» بين الدول مطروحة فى السوق العالمية، وتخضع لعمليات البيع والشراء والاستبدال. واكتفى بالقول «إنه يرى ذلك سوف يحدث قريبا»؟! وأحسب أن الصورة تكتمل بما قدمه يورغن كروب من معهد «بوتسدام» للبحوث المناخية فى ألمانيا الذى يرى أن هناك احتمالا كبيرا لموجة جفاف فى شرق المتوسط، وأن هذه ستكون أقوى بنسبة 90% من الجفاف الذى شهدته المنطقة خلال ال 100 سنة الماضية. وقال كروب إن هؤلاء الأشخاص الذين يقيمون فى هذه المناطق سوف يهاجرون من أماكنهم، وأعادنا الرجل إلى الواقع الأليم بأن 75% من النزاعات هى بسبب النزاع على المياه والأراضى. وقال إن «تغير المناخ» لم يعد «مشكلة علمية» بل «قضية سياسية»! ومن ناحية أخرى حرص وزير الموارد المائية والرى محمد عبدالعاطى على أن يطرح زاوية جديدة تتعلق بالزيادة السكانية، وقال إنها ستؤدى إلى عواقب وخيمة فى استهلاك المياه وأنماطها. وأوضح أننا فى مصر أصبحنا ندرك هذا الخطر. واستعرض الوزير المصرى الرؤية الوطنية فى مجال كفاءة استخدام المياه، وذلك بزيادة الاعتماد على المياه المكررة، وأكد أن مصر بحاجة إلى «ضعف الأموال» حتى تتمكن من تلبية الطلب على المياه، وأشار إلى وجود إستراتيجية لاسترداد تكلفة المشروعات والاستثمارات فى غضون 30 عاما. ويبدو أن السياسة سوف تطاردنا أينما ذهبنا، فالسيد فادى قمير مدير عام الموارد المائية بلبنان يقول لنا إن التحدى الأول هو أن «57% من الموارد المائية تأتى من خارج المنطقة العربية»»، وأن مشكلة النازحين تضغط على المياه، وأن الاحتباس الحرارى سيؤثر على «اقتسام المياه»، وفيما يذهب المجتمع الدولى إلى رفع شعارات مثل «التقاسم العادل والاستخدام المنصف» للمياه، فإن إسرائيل تمارس «الهيمنة» وتؤكد السيدة عدالة اتيرة رئيس سلطة جودة البيئة بالسلطة الفلسطينية أن «الاحتلال الإسرائيلى» هو أول تحد يهدد وجود الإنسان الفلسطينى، كما أن تغير المناخ هو «تحد آخر» نحاول مواجهته، ويقول توفيق الشرجبى وكيل وزارة لشئون المياه بوزارة المياه والبيئة باليمن إن الوضع سيئ قبل التغيرات المناخية فما بالك بعد التغير المناخى والحرب، وأشار إلى أن وضع اليمن سيئ، وفى بلد زراعى فإن 90% من استخدامات المياه تذهب إلى الزراعة، كما أن نقص المياه تسبب فى انتشار الكوليرا، ومن جانبه قال جمال الدين جاب الله مدير إدارة البيئة والمياه والإسكان بالقطاع الاقتصادى بجامعة الدول العربية إن التقرير أوضح أن المنطقة سوف تتأثر بتغير المناخ، وأشار إلى أن عدم الاستقرار والحروب المستمرة أدى إلى ما نحن فيه. وفى المقابل أكد عماد عدلى منسق عام، الشبكة العربية للبيئة والتنمية (رائد) بمصر ضرورة العمل من الآن حتى لا نصل إلى التدهور، وأشار إلى أهمية التفاوض والنجاح فى الحصول على الموارد المحلية والإقليمية بدلا من «الانتظار طويلا» لوصول التمويل الدولى. ومن ناحية أخرى كشف أيمن شصلى رئيس الفريق العربى للمفاوضات المعنى بتغير المناخ، ومستشار السياسات الدولية بوزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية بالسعودية عن زيادة الوعى بقضية تغير المناخ على المستوى الحكومى فى العالم العربى، وأن المنطقة العربية عليها أن توضح أن الدول الصناعية هى المسئولة عن الظاهرة نتيجة ممارساتها خلال مرحلة التصنيع، وأشار إلى ضرورة التصدى لمحاولة تحويل العبء المالى من الدول المتقدمة إلى الدول النامية. أمراض السرطان.. تأثير على الثروة الحيوانية.. وزيادة قناديل البحر! وكأن ما سبق ليس كافيا.. فيحذرنا السيد باسل اليوسفى من منظمة الصحة العالمية من أن العالم العربى يشهد 50 ألف حالة وفاة يوميا بسبب التلوث، وأن المنطقة تشهد ارتفاعا كبيرا فى أمراض السرطان بسبب تغير المناخ، وأنه ما لم تتم معالجة أوجه الضعف فإن نظام الصحة سينهار تماما، وأشار إلى انتشار الكوليرا فى اليمن والصومال والسودان. ومن جانبها قالت السيدة نضال الأشقر بالمركز العربى لدراسات المناطق الجافة والأراضى القاحلة (اكساد) سوريا أن تغير المناخ يضغط على الثروة الحيوانية فى العالم العربى، وقدرت هذه الثروة ب136 مليونا من الماشية، منها 66 مليون ماعز، 23 مليون إبل، وأضحت أن المناطق المهددة بشدة فيها الثروة الحيوانية هى وادى النيل وجبال عسير «اليمن»، الصحراء الكبرى، مناطق بلاد الشام. وفى الوقت نفسه قالت د.كريمة محمود عطية مدير معهد بحوث الموارد المائية بمصر إن القطاع الزراعى يوجد فى المناطق الأكثر حساسية للتغيرات المناخية، وإن مصر شهدت تغيرات مناخية حيث إن بعض المناطق لم تتعرض لأمطار وسيول على مدى 40 عاما مثل طابا فى سيناء، إلا أنها تعرضت وأدت إلى خسائر قيمتها 800 مليون جنيه.. ومن جانبه قال د.طارق تمراز مستشار وزير البيئة إن قناديل البحر سوف تغزو بحارنا، وأشار إلى معاناة مصر والكويت منذ هذه الظاهرة أخيرا، وأن ذلك راجع إلى التلوث وارتفاع درجة الحرارة، والصيد الجائر لأنواع معينة من الأسماك. زيادة حتى نهاية القرن.. تصل إلى 5 درجات! ولعل أول وأهم خلاصة فى تقرير ريكار هو أن درجة الحرارة فى المنطقة العربية ترتفع حاليا، وتتراوح عملية الارتفاع ما بين 1.2 إلى 1.9 درجة مئوية حتى منتصف القرن، و1.7 إلى 2.6 درجة مئوية بنهاية القرن، وهناك أجزاء من العالم العربى قد تشهد زيادة تصل إلى 5 درجات مئوية مقارنة بالفترة التى جرى المقارنة بها وهى من 1985 حتى 2005، وهذه الأجزاء هى المناطق الغربية الداخلية من العالم العربى ومنطقة حوض تندوف. . هطول الأمطار سوف يتناقص بشدة بامتداد المنطقة العربية حتى نهاية القرن، وتشير السيناريوهات المختلفة للخبراء إلى أن انخفاض يتراوح ما بين 90 120 مليمترا على المناطق الساحلية. كما أن انعكاسات تغير المناخ وقابلية التأثر بتغير المناخ سوف تفقد إدارة المياه المشتركة (يقصد هنا الأنهار المتشاركة)، ومن هنا فإن عملية التقييم والدراسة لتغير المناخ سوف تفيد الدول العربية. ويبقى أن التحدى كبير، وأن مشكلاتنا متشابكة، تؤثر الواحدة منها فى الأخرى.. إلا أن رحلة الأمل تبدأ بخطوة، وما جرى عرض بعض ملامحه من التقرير هو بداية الرحلة.