قامت عندنا الدنيا ولم تقعد عندما بحلقنا فى الشاشة فرأينا شابا ينهمر على وجنتيه الدمع عند إحراز محمد صلاح هدف الانتصار، فما الغرابة فى أن يبكى واحد منا لانتصار الوطن؟. أليس بديهيا أن تنسال دموع العين فرحا بأى إنجاز ترتفع فيه رايات وأعلام وطنك؟ ألم ترتعش غرف القلب الأربع لكل مصرى عندما تأكد له صعود مصر إلى المشاركة ضمن 32 فريقا من كل الدنيا فى مسابقة كأس العالم بروسيا 2018.. فلماذا يا ترى كل تلك الغاغة والضوضاء اللتين أثارتهما دموع شاب بكى فى المباراة الفاصلة؟. ااااه... حتما إن وراء ذاك الدمع ما وراءه، وأى قراءة متمعنة فى مغزاه لابد قائلة لك على الفور إن ثمة معانى عديدة «خفية» لهذا البكاء أولها بالتأكيد أن تلك الدموع ليست سوى برهان حب طاغ للبلد... إذ ها هو حلم من أحلامه قد تحقق (بجد) بعد طول انتظار، وكنا قد حسبناه سرابا (كسرابات كثيرة مازلنا نحسبها)!. صحيح أنها مجرد كرة قدم ولعبة من الألعاب، إلا أنها مع هذا تبقى رمزا لما هو أكثر وأعمق، وكل شعوب الأرض تتقاسم معنا هذا الشعور حتى أعتى الدول ذات الباع الطويل فى تلك اللعبة (وإن شئت فانظر إلى ما فعله شعب الأرجنتين عندما «هتركهم» نجمهم الأعز ميسى بثلاثية قادتهم إلى روسيا). المعنى الثاني، أن المصريين استيقظوا فى ذلك المساء على حقيقة كانوا قد نسوها (ربما بفعل فاعل) وهى أنهم مازالوا قادرين على الإنجاز وسط شلالات من الإحباط المبالغ فيه بلا داع، مع أنهم هم الذين طالما أدهشوا الدنيا عبر السنين بالقدرة على الإنجاز والابتكار، وسل إن أحببت أهراماتهم وبردياتهم القديمة وجدران معابدهم لتنبئك بالخبر. وللعلم فإن مصريين آخرين (بالداخل والخارج) مازالوا كل يوم يحققون إنجازات هائلة فى شتى المجالات، إلا أن أحدا لا يلتفت إليهم. ولا نعرف عنهم شيئا، بسبب طغيان التبسيط والتفاهة، وذلك الماراثون التليفزيونى والفيسبوكى اللاهث بحثا عن كل ما هو مثير لدلقه على الشاشات حتى لو كان «عبيطا»!. ثالث المعاني، أن المصرى منا صار يتلهف، بل «يتشحتف» على أى فرصة يهمس فيها لنفسه (قبل أن يقول للآخرين): نعم... أنا مازلت منتميا، وأتمتع بالولاء فى زمن بات فيه الولاء مثار شك، بل وعنوان سخرية وسذاجة فى البعض من الأحيان. وللحق فإن المصرى معذور، وكل ما حوله يدفعه دفعا إلى هذا الشك الولائي، حيث ينظر حوله فيرى البعض إما منتميا إلى شلة، أو لمجموعة مصالح بعينها، أو لفصيل من الفصائل، أو متحيزا إلى فئة، بينما الأغلبية حائرون، ومن ثم أصبحت الوطنية بمعناها التقليدى على المحك. أما المعنى الرابع الذى حدثتنا به الدموع فأوجعتنا، فهو أننا نحن المصريين لسنا بأقل من الآخرين، خاصة وقد تعالى من حولنا صخب «الصغار» الموتورين بأننا لم نعد على شيء، صرخت الدموع فى وجوههم: اصمتوا جميعا... فها نحن مستمرون فى إحراز الأهداف، فما المانع إذن من أن يمتد تسجيل الأهداف ليتجاوز كرة القدم والرياضة إلى كل المجالات، كالتعليم والاقتصاد والثقافة والفنون والتشييد والعمارة؟. غير أن ثمة معنى خامسا أثارته دموع فتى المدرجات، وهو معنى يحمل جملة من الاسئلة الحائرة التى تبحث عن إجابات، ومن بينها: وهل تلك الدموع إلا واحدة من دموع كثيرة أخرى نراها كل يوم على وجوه حولنا فنشفق لها وتتمزق نياط القلب؟. ولماذا لم تسارع تلك الأيدى الباذخة بالعطايا والجوائز والمكافآت والإشادات إلا إلى دموع الباكين فى الملاعب فقط؟. كنا ننتظر مثلا أن يفز هؤلاء المهرولون بالعطايا فينهالوا على دموع أمهات الشهداء مسحا وتقبيلا وتبجيلا، وقد قدمن لنا أغلى ما ملكن (فلذات الأكباد) دفاعا عن شرف الوطن وعرضه وبقائه. صحيح أن قواتنا المسلحة الباسلة لم ولن تنسى أبناءها، وأن رئيس الدولة لا يألو جهدا لضم أبناء هؤلاء الشهداء الطاهرين إلى حنايا قلبه فى كل مناسبة ولقاء، لكن ماذا عن بقية أبناء المجتمع المتنافسين فى بذل المكافآت هنا وهناك؟. وكنا ننتظر من هؤلاء المتباهين بالمنح الذى لا حدود له التوجه إلى بقية قطاعات المجتمع (من منشآت تعليمية وبحثية وصحية وخدمية) كما يفعل أقرانهم هناك فى الغرب الذى لا يبخل اغنياؤه وموسروه عن العطاء بسخاء، فيدهشنا حجم الأموال التى يتبرعون بها... أم ترى أن للمانحين عندنا أهدافا أخرى كالمباهاة والدعاية وتسويق المنتجات مثلا ونحن لا نعلم؟ ومتى كانت دموع المشجعين أغلى من دمموع الكادحين؟. وكنا ننتظر أن يصبح العطاء هو الأصل، وليس الاستثناء، ليس فقط لمساعدة الحكومة، وقد تفاقمت التحديات فوق كاهلها (كان الله فى عونها)، بل وبالأساس للحفاظ على سلام المجتمع وأمانه، وما دمتم يا أصحاب المكافآت بالملايين مقتدرين هكذا على الكرم وتجودون بما لذ وطاب على الدامعين الباكين فى معابد كرة القدم.. فلماذا لم نسمع عن عطائكم هذا مع بقية الدامعين، ونحن فى وطن واحد؟. قد يرد البعض: يا أخي... وما دخلك أنت.. أليس هذا مالى وأنا حر فيه.. فما يمنعنى من أن أشترى به حماما أربيه ثم للصقور أرميه؟ ونقول: حذار... فالمال الذى لا يفيد منه الناس جميعا لا خير فيه حتى لو تكدس، وعلى كل حال هذا مجرد تنبيه، فليت دموع الفرح هذه تكون بداية طريق متواصل من العطاء لا ينقطع، ولا يستثنى أحدا... وها هم بقية الدامعين ينتظرون!. لمزيد من مقالات سمير الشحات