أضحك بمرارة عندما أقرأ أو اسمع عن مدرسة دولية جديدة أو قديمة متسائلا عن مصاريفها الباهظة والتى يقول صاحب أى مدرسة منهم انه أسسها كواحدة من مشروعات جمعية اهلية غير قابلة للربح. وعندما تولى طارق شوقى مسئولية التعليم كان واحدا من أهم قراراته هو ان يتم دفع مصاريف أى تلميذ فى تلك المدارس فى أحد البنوك لإحكام الرقابة على المغالاة غير المقبولة من اصحاب تلك المدرسة؛ فيدخل التلميذ المدرسة دون استنزاف أسرته بنقود من تحت المنضدة. وعن الجامعات الخاصة يمكنك أن تسمع وترى العجائب. وذاكرتى لا تنسى أحد وكلاء وزارة التعليم العالى الذى كان يستقبل فى ايام ما قبل افتتاح مكتب التنسيق أحد أصحاب سلسلة من المعاهد ويأخذ منه «المعلوم» كى يضع قائمة معاهده ضمن بطاقات الاختيار التى يمكن للطالب الالتحاق بها. وبيقظة من الرقابة الإدارية تمت متابعة هذا الوكيل الوزارى فسقط بسكتة قلبية مفاجئة أراحته من الفضيحة. وطبعا هناك عديد من الجامعات الخاصة تم الترخيص لها بدعوى تبعيتها لجمعية اهلية. ولا داعى للسؤال عن كيفية الدراسة بها ومدى جديتها. وعن نفسى لا أنسى استقالة عالم كبير من التدريس بإحدى الجامعات الخاصة بعد ان طلب منه إبن صاحبة الجامعة ان يقوم بالتساهل فى التصحيح لأن أعدادا لابأس بها من طلبة الخليج يدرسون بتلك الجامعة؛ فما كان من العالم الكبير سوى الاستقالة من التدريس بتلك الجامعة الخاصة. وليس من قبيل الدعاية لجامعة الاهرام الكندية التابعة لمؤسسة الأهرام حرص رئيسها الأستاذ الدكتور فاروق إسماعيل على متابعة التدريس بكل كلية وكل قسم وعيونه ترنو إلى مستوى التدريس بالكليات العسكرية حيث يعيش الطالب حياة علمية جادة بجانب دراسته للعلوم العسكرية. وليس هذا بغريب على من سبق ورأس جامعة القاهرة بنجاح محاولا إيقاف تدهور الدراسة فيها. وعندما أقوم بالسير عبر شارع بين السرايات الواصل بين جامعة القاهرة وشارع التحرير بالدقي، لا يفاجئنى ازدحام الشارع بمكاتب تصوير المذكرات الجامعية التى يقوم بإعدادها معيدون وأساتذة من كليات جامعة القاهرة. ومن الأمور المبشرة ببصيص الأمل هو تقليص الدراسة بالتعليم المفتوح بجامعاتنا؛ فقد كان هذا النوع من التعليم بوابة تفرز سنويا عشرات المئات من حملة الشهادات العليا الذين لم يدرسوا شيئا له قيمة ما. وقد تفجرت تلك الوقائع فى رأسى عندما قيل لى ان بعضا من حملة الماجستير والدكتوراه قد تجمعوا امام مجلس النواب مطالبين بالتعيين. وكثير من الدارسين فى الكليات النظرية يعلمون بوجود عدد من محترفى إعداد رسائل الماجستير والدكتوراه بمقابل مادي؛ فيصير الواحد حاملا للقب «دكتور» وهو يخطئ فى كتابة إسمه باللغة العربية. وطبعا لايمكن تعميم هذا الحكم على من درس الماجستير أو الدكتوراه إن كان قد تم تعيينه كمعيد بالكلية التى درس فيها، فليس من حق من تطوع _ حقا أو ادعاء_ لتطوير نفسه بالدراسات العليا ان يلزم الدولة بتوفير عمل له ، لأن كل عمل يحتاج إلى خبرات قد لاتتوفر لحامل الماجستير أو الدكتوراه. وطبعا من حق كل إنسان ان يجد فرصة عمل لا فرصة كسل لها راتب شهري. ولكن ماذا نفعل إزاء أخطاء لا يمكن إلصاقها بما حدث من تفكك فى القيم التعليمية عبر سنوات ما بعد ثورة 23 يوليو؟ عن نفسى لا أنسى خطايا السيد كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة ثورة يوليو وهو من بدأ تدهور التعليم الثانوى والعالى فى عهد توليه للوزارة. فهو صاحب قرار نجاح الطالب فى اجتياز الثانوية العامة إن حصل على مجموع أربعين بالمائة، أما عن تدهور التعليم الجامعى خصوصا فى كلياته النظرية، فذاكرتى لاتنسى ملامح الأستاذ الدكتور محمد ثابت الفندى رئيس قسم الفلسفة بجامعة الإسكندرية عندما دخل ليلقى بأول محاضرة لنا بالسنة الأولى وأعلن بصريح العبارة أن عددنا يربو على الخمسين طالبا، وهو عدد ضخم لمن يرغبون دراسة الفسلفة. وتندر على ان دفعته لدراسة الفلسفة لم تزد على عشرة طلاب. وإذا كان العمل حقا لكل إنسان، فهل هناك دراسات لسوق العمل ليتم إعلانها على المجتمع فيتوجه الشباب إلى المجال المطلوب؟ أكتب ذلك والقلب ينفطر لرؤية مهندس شاب تخرج بدرجة جيد جدا ويعمل كمصلح لأجهزة التليفونات المحمولة، بينما كان مجال تخصصه هو البناء للكبارى والمنشآت الضخمة. وإذا كنا نقوم بدراسة ميول واتجاهات الشباب حين يؤدون الخدمة العسكرية، فهل من الصعب علينا ان نفتح أبواب الأمل أمام أى خريج جامعى ليتعرف على مجالات العمل التى يصلح لها؟ أكتب تلك السطور ونحن نعيش أيام تذكر فرح بما أنجزناه فى السادس من أكتوبر 1973؛ ومن عاشوا تلك الفرحة لابد له من تذكر الفارق بين الساعة الثانية من ظهر السادس من أكتوبروبين ما قبله من ساعات وأيام. أتذكر ببساطة امتلاء الوجدان المصرى بالثقة فى أن أمانة المقاتلين مع تدريباتهم التى استمرت ست سنوات؛ وكانت رحلة القتال قد أهدتنا هذا الإحساس النبيل بمعنى الثقة فى ان النصر قادم. وصار من حقنا ان نفرح سنويا بما أنجزناه؛ ولكن ذاكرتنا لا تنبهنا إلى حقيقة ان كل مقاتل درس وأتقن نظريا وعمليا مهمته وأقبل عليها بتناغم حققنا به إنجازا غير مسبوق وهو انتصار اعتمد على جودة تعلم كل مقاتل لمهمته؛ لتنسج المهام الفردية نصرا غير مسبوق. واستسلمنا من بعده لترهل تعليمى فصارت هناك هوة شاسعة بين ما يجب توافره فى كل شاب من سمات تؤهله لأداء عمل ما وبين الشهادة التى حصل عليها العديد من شبابنا عبر مذكرات تم شراؤها من مكتب تصوير مستندات. وإذا كان تعدادنا قد تجاوز المائة مليون نسمة؛ وأن قرابة نصف هذا التعداد فى سن الدراسة فلا أقل من الانتباه إلى دراسة ما يصلح له كل شاب. ولا يغيب عن رأسى ما فعله الراحل الكريم الفريق أول يوسف صبرى أبو طالب عندما تسلم مهمة محافظة شمال سيناء بعد تحريرها بأن قام بتوحيد الدراسة فى المدارس الثانوية فجعل كل مدرسة ثانوية تدرس المواد الصناعية والتجارية والزراعية، لأن سيناء كانت أرض حلم ، تحتاج إلى تخصصات متوسطة ومن يتفوق يمكنه التوجه إلى التعليم العالي. وبعد أن ترك الرجل منصبه استلمت الدراسة بمدارسها بنفس أمراض الدراسة فى الوادي. باختصار أحلم بدراسة المجالات التى تحتاجها الحياة على الخريطة المصرية فيتم تأهيل الشباب إليها ليكون لنا انتصار فعلى يتساوى من انتصارنا القديم الذى ما زال يبرق بالثقة فى النفس كلما مر علينا عام آخر؛ فإذا كانت حرب اكتوبر هى درس فى أمانة شعب مع مصيره، فلماذا لا نخوض ميلاد أمانة أخرى للمستقبل؟ لمزيد من مقالات منير عامر