كنت أريد أن أخصص مقال اليوم لبعض الحكايات الأمريكية التى أظنها مهمة ومثيرة أيضا؛ فعلى قدر المعرفة الكبيرة ومنذ زمن طويل بالأحوال فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، فإن العجب مما يحدث فيها سياسيا واقتصاديا يحتاج نظرة جديدة فاحصة. ومع ذلك فإن الأحوال فى مصر لا يمكن تجاهلها، وفيها الكثير الذى يبعث على الأمل ويثير الخيال؛ ولكن الحقائق الغلابة تشير بقوة إلى أمور صعبة وإحباطات متعددة. كل ما يحدث فى مصر يثير السؤال حول عبور الفجوة ما بين الأحلام الوردية، والتوقعات المفرحة، فى جانب، والأحوال القائمة فى جانب آخر. وبالتأكيد فإن تعبير «العبور» لدينا له أهمية خاصة، لأن عبور قناة السويس فى حرب أكتوبر كان يعنى العبور المادى والفعلى مجسدا خطوة استراتيجية عسكرية بالغة الأهمية؛ ولكن هذه الخطوة باتت تشير بدورها إلى إمكانات اعبورب الأمة كلها من التخلف إلى التقدم، ومن الفقر إلى الغني، ومن تدنى المكانة الدولية فى الموشرات المعروفة إلى ارتفاع الهامات العالمية فى المؤشرات المعروفة أيضا. الأسبوع الماضى كان خليطا مهما من الأحداث المثيرة التى تتعدى صفاتها الذاتية إلى السمات العامة للدولة المصرية كلها. انظر لما حدث مع دخول مصر إلى نهائيات كأس العالم وقصته المثيرة فى مغالبة التراجع، والسعى والرغبة فى الفوز والانتصار. وانظر أيضا إلى سلسلة المشروعات التى جرى افتتاحها أو الطرق على أبوابها بمناسبة احتفالات أكتوبر، وكلها تشير إلى عمران إضافى فى مصر، وطموحات كبيرة لا تجرى فى الخيال وإنما يمكن مشاهدتها على أرض الواقع. ولكن على جانب آخر فإن نتائج الإحصاء العشرى الذى أجراه الجهار المركزى للتعبئة والإحصاء، فضلا عن النقلة الفنية والأداء فى التعداد ذاته وما يتيحه من معلومات عن الوطن للوطن كله، إلا أن ما أفضى به منذر، ويرفع مستويات التحدى للدولة كلها إلى آفاق غير مسبوقة. والقضية فى النهاية ليست معادلة بين ما هو إيجابى وما هو سلبى وإنما هناك فى النهاية أولا فجوة كبيرة بين ما هو مطلوب وما هو متحقق؛ وثانيا أن الزمن يخلق حقائق جديدة من أعباء البشر، والتغيرات فى البيئة المصرية ذاتها إلى مستويات أدني. هذه الفجوة خلقت ليست فقط خلافا حول ما يسمى «بالأولويات» بين هؤلاء الذين يريدون التعامل مع الواقع الصعب المعروف فى التعليم والصحة والطرق القديمة والوادى الفقير؛ وبين من يرون أن المسألة هى خلق مصر جديدة تماما تجذب إليها بقية مصر التى نعرفها. ولكن الخلاف أيضا يصل إلى فلسفة الحكم وعما إذا كانت تقوم على التسليم بالنزعات اليومية والرغبات الآنية للمواطنين؛ أو العمل على نقلة كيفية فى واقعنا وأحلامنا من خلال خلق عالم لم نشاهده من قبل. علينا أن نسلم بأن الحوار بين الفريقين غير قائم تقريبا، وإذا حدث فإنه غير صحي، فالذين يرفعون شعار الأولويات «الصحيحة» فإنهم نادرا ما يحددونها تحديدا دقيقا، فرفع شعار التعليم والصحة كلاهما مهم، ليس كافيا فيه الإشادة بالنماذج العالمية، وإنما وضع تصورات اقتصادية ومالية سليمة تحدد ما سوف نقوم به، وما سوف نتكلفه، ومن أين سينفق عليه، وما سوف نفعله، والأهم من ذلك كيف سيختلف ما سوف نقوم به عما نقوم به بالفعل. المسألة ببساطة ليست غياب المعلومات، فالمتوافر منها هائل سواء من المصادر الوطنية، أو من المصادر العالمية؛ ولكن ما هو غير متوافر فهو الرؤية السياسية لاستخدام الموارد القومية التى تظهر دائما من جانب المختلفين مع الحكم فى صورة ضبابية وشعارية أكثر منها برامج سياسية ناضجة. وللحق فإن الحكومة ليست أفضل حالا بكثير، فهى تبدأ المشروعات وبعد ذلك نجد فيضا من الأسباب لها من أول التشغيل وحتى حماية البيئة ودعم السياحة؛ ومع ذلك فإن هناك بعضا من التقدم فى هذا المجال، حيث ربطت الحكومة بين مشروع العاصمة الإدارية ومشروع محور قناة السويس ورؤية مصر 2030، وكذلك فعلت مع بناء 14 مدينة جديدة والارتفاع بنسبة المأهول من المساحة المصرية من 7% إلى 12 إلى 14% بعد دستة من الأعوام وإقامة حياة جديدة للمصريين. ولكن أيا كانت المسافة بين الحكم والمختلفين معه؛ فإن ما يجمع الطرفين هو أن معدلات النمو الحالية رغم الإنجازات الكبيرة لا تزال متواضعة، وإذا ما سارت بنفس معدلاتها فإن فائدتها سوف تكون محدودة على ضوء ما نعرفه الآن حول التحديات الجديدة التى يولدها النمو السكاني. برامج المعارضة السياسية إذا كان يمكن تسميتها برامج تؤدى كلها لزيادة عجز الموازنة، ولا توفر فرصا متزايدة للعمل، ولا يوجد فيها ما يحقق زيادة فى نسب التعليم الراهنة. نصائح الخبراء الاقتصاديين فى أغلبها ذات طابع تكتيكى ينصب على معالجة عجز الموازنة، أو تخفيض الدين العام؛ وهذه كلها مهمة ولكن لا يوجد فيها ما يحقق ما حققته دول أخرى زادت ديونها وعجزها ومع ذلك حققت معدلات أكبر للتشغيل والنمو. برامج الحكومة التى تسير على كل الجبهات تقريبا تنتهى بالفعل إلى معدلات نمو تتراوح ما بين 4 و5% خلال الأعوام القليلة المقبلة. ما نحتاجه طرق جديدة حتى ولو كانت مطروحة منذ وقت طويل لكى نرفع معدل النمو؛ وهو ما لن يحدث ما لم نعرف كيف تنمو القطاعات المختلفة من الاقتصاد. مشهد الإنشاءات والمدن الجديدة ومحطات الطاقة والمونورويل والقطارات الفائقة السرعة كلها رائعة؛ ولكن المطلوب أن نعرف أكثر من الإعلانات عن الصناعة والزراعة والخدمات الأخرى فى مصر. ماذا حدث فعليا فى تحويل الاقتصاد غير الرسمى فى مصر إلى اقتصاد رسمى نعرف أوله من آخره وما يمكن تطويره فيه؟ وهل من الممكن أن نخلق سباقا بين المحافظات المختلفة فى تحقيق نسب عالية من الاستثمار ومغالبة المستويات المتواضعة للتنمية البشرية؟ كل ذلك مجتمعا هو الذى سوف يرفع مستويات النمو والتشغيل لكى تسد فجوة بين أحلامنا وواقعنا. لمزيد من مقالات د. عبدالمنعم سعيد