قبل بضع سنوات دعانى الدكتور مراد وهبة لحضور الأمسيات التى كانت تنعقد فى منتدى ابن رشد، وهو صالون ثقافى أسسه المفكر الكبير ليواصل فيه نشاطه فى إحياء الفكر الفلسفى الذى تعرض فى مصر خلال العقود الماضية للتجاهل والإهمال والمصادرة مثله مثل كل نشاط فكرى أو سياسى يمارس فيه الانسان حقه فى التساؤل ويجرؤ على النقد أو الرفض أو المعارضة. ونحن نعرف ما صنعه كمال الدين حسين وأمثاله فى وزارة التربية والتعليم، وفى الجامعة وفى كلية الفنون الجميلة، ونعرف ما صنعه الإخوان وأمثالهم فى كليات التربية وفى المناهج الدراسية المقررة على طلاب المراحل الثلاث. ونعرف أن هؤلاء جميعا يكرهون الفكر الحر ويكرهون الفلسفة ويتهمون المشتغلين بها بالزندقة والإلحاد. من هنا تراجع الفكر الفلسفى فى مصر خلال العقود الماضية وسجن فى بعض البرامج الدراسية وتحول إلى محفوظات يتعامل معها المدرسون والطلاب كما يتعاملون مع القواعد النحوية التى يكتفى الكثيرون باستظهارها دون أن يحولوها إلى لغة حية صحيحة يعبرون بها عما يحسونه ويفكرون فيه، وفى هذا المناخ الراكد ظل عدد من أساتذة الفلسفة يدافعون عن الفلسفة، فى مقدمتهم مراد وهبة الذى لم يكتف بالعمل مع زملائه وطلابه فى الجامعة وإنما نزل بالفلسفة إلى الشارع وتصدى للتيارات الفكرية والسياسية المعادية للعقل والحرية فكشف حقيقتها وعرى سوأتها وحاصرها بمؤلفاته ومقالاته عن ابن رشد، وعن الأصولية، والعلمانية، والديمقراطية كما أسس منتدى ابن رشد وجعله منبرا يتواصل فيه المثقفون المصريون على اختلاف اتجاهاتهم وميادين نشاطهم. وفى إطار نشاطه هذا دعانى للمشاركة فى بعض الأمسيات واقترح عليّ أن أكتب ورقة حول الفلسفة ورجل الشارع أشارك بها فى نشاط المنتدى فكتبتها وقدمتها بالفعل. وفى اعتقادى أن الفلسفة ورجل الشارع قضية محورية تتفرع منها معظم القضايا التى شغلت مراد وهبة وتصب فيها.. وذلك إذا فهمنا أن المقصود بها ليس الحديث عن موقف رجل الشارع من الفلسفة فحسب، وإنما المقصود أولا هو موقف الفلسفة أو الفيلسوف من رجل الشارع وشعوره بمسئوليته عن كشف الحقائق والتصدى للأكاذيب والتنبيه للأخطار والتحديات التى يواجهها عامة الناس ويتعرضون فيها لمن يخدعهم ويستدرجهم لمواقف يفقدون فيها حقوقهم ويعرضون وجودهم المادى والمعنوى للدمار. وهل كان الأندلسيون يلقون المصير المأساوى الذى لقوه ولقيته بلادهم وحضارتهم لو أنهم تعاملوا مع ابن رشد وتعلموا منه كما تعامل معه الأوروبيون وتعلموا منه؟ وما الذى كان يطلبه ابن رشد ويدعو له حتى يرميه أهل قرطبة وفقهاؤها بالالحاد ويلقوا على رأسه الأقذار حين يرونه فى الطريق ويضطروا أميرهم المنصور لنفى ابن رشد من قرطبة وإشعال النار فى كتبه ومؤلفاته؟ لم يطلب ابن رشد أكثر من الرجوع للعقل فى تفسير ما نراه. فإن اختلف الدين مع العقل فهذا الاختلاف بين لغتين وطريقتين فى التعبير عن حقيقة واحدة. لأن الدين ليس فيه ما يناقض العقل الذى يجب أن يكون مرجعنا فى فهم العالم من حيث هو نظام يرتبط بعضه ببعض ونتائج نستطيع أن نبحث عن أسبابها وأسباب نستطيع أن نتوقع نتائجها. كما يجب أن يكون مرجعنا فى فهم النصوص الدينية لأننا نحتاج للدين كما نحتاج للفلسفة ونستطيع أن نجمع بينهما إذا وضعنا كلا منهما فى مكانه من حياتنا. هذا المنهج فى التفكير أخذه الأوروبيون عن ابن رشد فخرجوا به من عصور الظلام إلى عصر النهضة، وحاربه المسلمون فساروا بالعكس. خرجوا من العصر الذى ازدهرت فيه حضارتهم ودخلوا عصر التراجع والهزيمة والانسحاب. ومن هنا كانت المفارقة التى وقف عندها مراد وهبة. أن يكون ابن رشد الفيلسوف العربى المسلم مضطهدا فى بيته غائبا فى ثقافته التى ولد منها وحاضرا فى الغرب ذائع الصيت معدودا من المصادر التى بدأت منها النهضة الأوروبية. النهضة الأوروبية بدأت من التسليم بحاجة الانسان للدين والفلسفة معا. الدين هو طريقنا إلى الله، والفلسفة أو العقل هى الطريق لمعرفة الدنيا واكتشاف الطبيعة وتسخيرها لتلبية مطالبنا فى هذه الحياة. فإذا كان من حقنا أن نجمع بين ما يجب للدين وما يجب للدنيا، فعلينا ألا نخلط بينهما كما نفعل حتى اليوم فنفشل فى الوصول إلى الديمقراطية التى نطلبها لكننا لا نسير فى الطريق المؤدى إليها وإنما نسير فى الطريق إلى الطغيان. وهذه مفارقة لا تختلف كثيرا عن مفارقة ابن رشد. فقهاء قرطبة خلطوا بين الفلسفة والدين فخسروهما معا وخسروا الأندلس كلها، ونحن خلطنا بين الدين والسياسة فأفسدنا الدين وخسرنا الديمقراطية التى نعرف جميعا أنها النظام الذى يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه. فالشعب فى هذا النظام هو المشرع وهو القاضى وهو الحاكم وهو المحكوم. الشعب فى الديمقراطية يضع الدستور الذى يضمن له حياة آمنة كريمة فى دولة تقوم على الروابط المشتركة التى تجمع بين كل المواطنين وليس على أى رابطة تفرق بينهم. وهو يختار فى هذه الدولة حكامه ويراقبهم ويحاسبهم ويغيرهم. وهو الذى يسن القوانين التى يحتكم لها جميع المواطنين ويلتزمونها. والديمقراطية إذن نظام يقوم على المواطنة التى تسوى بين كافة المواطنين فى الحقوق والواجبات ولا تميز بين جنس وجنس أو بين طبقة وطبقة أو بين دين ودين. فالعلمانية أو فصل الدين عن الدولة شرط جوهرى فى هذا النظام لا تتحقق الديمقراطية فى غيابه، فإن خلطنا بين الدين والدولة فهى مفارقة، بل مفارقتان اثنتان: الأولى هذه التى شرحها لنا المفكر الكبير فى كتابه «رباعية الديمقراطية»، أى الشروط الأربعة التى لا تقوم الديمقراطية إلا باجتماعها وهى العلمانية، والعقد الاجتماعي، والتنوير، والليبرالية. وأما المفارقة الأخرى فتتمثل فى أن الشعب الذى سميت الديمقراطية باسمه لأنها النظام الذى يحكم به نفسه بنفسه ويضمن به أمنه وحريته ويتحرر به من حكم الطغاة هذا الشعب هو الذى نراه يستسلم للمتاجرين بالوطنية أحيانا وأحيانا للمتاجرين بالدين ويستجيب لهم ويهدم الديمقراطية التى هو مادتها وصاحب المصلحة فيها ويقف مع الاستبداد. نحن هنا أمام وجه آخر من وجوه المفارقة الأولى التى نستطيع أن نسميها مفارقة سقراط. سقراط الذى نزل إلى شوارع أثينا وأسواقها يعلم الحكمة وفى اعتقاده أنه يؤدى بهذا رسالة مقدسة اتهم بافساد الشباب وانكار وجود الآلهة وحوكم أمام الشعب الذى أدانه وحكم عليه بالموت. المفارقة الأخيرة يحدثنا عنها مراد وهبة فى كتابه «زمن الأصولية. رؤية للقرن العشرين» الذى نجد فيه أن المصير الذى واجهه سقراط فى القرن الخامس قبل الميلاد مازال يواجهه خلفاء سقراط !. لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبد المعطى حجازى