عندما ذهبت الوزيرة السفيرة مشيرة خطاب إلى ساحة منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة(يونسكو) فإنها كانت على علم بأنها تقتحم ميدان معارك دولى عالمى تدور فيه معركة عالمية كبرى من أجل "فرض الإرادات" بين الدول بل وبين تكتلات كاملة من الدول فى أنحاء العالم. بل وكانت "البطلة" ابنة مصر على علم بأن المعركة ليست سهلة لأنها وباختصار معركة تدور منذ عقود داخل ساحات تلك المنظمة من أجل فرض الإرادات ولكن باستخدام أسلحة خاصة تتلاءم مع طبيعة الميدان والأهداف من الصراع وهى أسلحة "القوة الناعمة". إن المعركة الأخيرة التى شهدتها ساحات اليونسكو وتابعها العالم باهتمام وشغف لم تكن معركة عادية؛ بل كانت فى جانب كبير منها معركة "فرض إرادات" بين دول وتكتلات عالمية، أما الأهم فإنها كانت تتعلق فى جانب كبير منها ب"القدس". فالقدس هى سبب التكالب غير الطبيعى على نيل شرف تولى منصب مدير عام المنظمة فى فترة محورية وحاسمة فى تاريخها وتاريخ العالم. وحتى يكون المشهد أكثر وضوحا فإن محاولات التكتل وتكوين جماعات ضغط من أجل الاستحواذ على موقع مدير عام المنظمة خلال الأعوام الأربعة القادمة ارتبطت بشكل كبير إن لم يكن بشكل تام بالصراع فى الشرق الأوسط بل وتحديدا بالصراع من أجل القدس ومن أجل تحرير فلسطين. وجاء إعلان الولاياتالمتحدة انسحابها وتلويح إسرائيل بالإنسحاب فى ذلك الإطار الحقيقى والواقعى للمشهد. كما جاء التشبث القطرى العجيب باستكمال المعركة وتعطيل مرشحة مصر عن الفوز المستحق مدفوعا بالطمع والرغبة ضيقة الأفق فى القيام بدور ما فى تلك المرحلة الحاسمة. وجاء تشبث فرنسا وخطتها واستراتيجيتها فى إدارة المعركة الإنتخابية مبنيا على الرغبة فى الاستحواذ على أحد أهم مفاتيح الصراع فى الشرق الأوسط خلال الفترة القادمة. وهنا يطرح سؤال هام نفسه : لماذا الشرق الأوسط ولماذا القدس وما سبب إرتباط معركة اليونسكو الأخيرة بهما؟! وهنا تأتى الإجابة متمثلة فى عدة نقاط يمكن من خلالها رسم ملامح أكثر دقة للمشهد الذى تجاوز مرحلة الصراع من أجل "كرسى قيادى" فى منظمة دولية معنية بالتربية والعلوم والثقافة إلى مرحلة الصراع من أجل الإمساك بمفاتيح أساسية فى صراع الشرق الأوسط بشكل عام و خاصة القدس. 1 صوتت الجمعية العامة لليونسكو لصالح قبول "دولة فلسطين" فى المنظمة كدولة كاملة العضوية فى نهاية شهر أكتوبر2011. وأصبحت اليونسكو أول منظمة تابعة للأمم المتحدة تقر "عضوية كاملة" لفلسطين منذ تقدم الفلسطينيون بطلب العضوية الكاملة للأمم المتحدة فى سبتمبر2011 . ويومها صوتت 107 دولة لصالح قبول عضوية فلسطين، بينما عارضته 14 وامتنعت 52 دولة.وفى يوم 23 نوفمبر2011 تحولت العضوية الفلسطينية الكاملة بالمنظمة إلى أمر واقع بدخول القرار حيز النفاذ. وحتى يكون المشهد أكثر اكتمالا؛ فقد عارضت القرار الولاياتالمتحدة وألمانيا وكندا ولاتفيا ورومانيا، بينما امتنعت إيطاليا وبريطانيا عن التصويت، وأيدت القرار كل من روسيا والصين وجميع الدول العربية، وتقريبا كل الدول الأفريقية والأمريكية اللاتينية. وكان من أبرز تبعات القرار أن توقفت الولاياتالمتحدة رسميا عن الوفاء بالتزاماتها المالية تجاه المنظمة وكانت تقدر ب 70 مليون دولار تقريبا، وهى الخطوة التى تم اتخاذها بناء على قانونين أمريكيين اعتمدا فى مطلع عقد التسعينيات يحظران على الولاياتالمتحدة تمويل أى وكالة متخصصة فى الأممالمتحدة تقبل فلسطين كدولة كاملة العضوية. واعتبرت السفيرة الأمريكية لدى الأممالمتحدة فى ذلك الوقت (سوزان رايس) أن منح اليونسكو العضوية الكاملة للفلسطينيين "يضر بشدة" بالمنظمة ولا يمكن ان يمثل بديلا لمحادثات السلام مع اسرائيل. 2 فى مطلع شهر مايو الماضى عام 2017 صدر قرار عن منظمة اليونسكو، بأغلبية 22 دولة مقابل 10 دول (وفرنسا امتنعت عن التصويت)، باعتبار مدينة القدس التاريخية مدينة محتلة، وليست تابعة لإسرائيل. كما شمل القرار كذلك اعتبار المقابر فى مدينة الخليل وفى بيت لحم فى الضفة الغربية مقابر إسلامية. وكان القرار بمثابة الضربة القانونية الدولية المباشرة لكافة الجهود التى بذلتها إسرائيل على مدار العقود السابقة والمراوغات المرهقة ومحاولات تغيير الهوية والمعالم الجغرافية والديمغرافية للقدس التى قامت بها إسرائيل بهدف تهويد القدس والمناطق التاريخية فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة. وجاء القرار الذى صدم إسرائيل، ومن قبلها الولاياتالمتحدة، مكملا لقرارات صدرت العام السابق، دعت إلى أنه لا وصاية ولا سلطة لإسرائيل على القدس، وأن المدينة تاريخيا عربية خالصة ولا علاقة لإسرائيل بها أو بالمسجد الأقصى تحديدا. وكان من المنطقى بعد الضربتين السابقتين اللتين أكدتا وضع القدس وأفشلتا كافة الجهود الإسرائيلية الأمريكية الرامية الى التلاعب بورقة تبعية القدس (خاصة "لعبة" الإبتزاز والتلويح بقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والتى تمارس سنويا ضد الدول العربية والإسلامية المعنية) أن تبذل أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما كافة الجهود لزرع قيادة مضادة للحق العربى أو محايدة على أقل تقدير فى اليونسكو. 3 أدركت كافة القوى المتربصة بالعالم العربى منذ شهور سابقة أن معركة اليونسكو يمكن حسمها لصالحهم فى ظل الانقسام المزمن للعالم العربى، الذى يؤدى إلى ضعف التأثير أثناء عمليات التصويت وهو الأمر الذى تكرر بوضوح للمرة الثالثة على التوالى!! دون أن يتعظ العرب حتى اليوم! وهكذا اكتمل المشهد. ووسط ميدان القتال الذى تستخدم فيه كافة وسائل "القوة الناعمة" والدبلوماسية الرئاسية، دخلت مشيرة خطاب لتخوض معركتها البطولية ضد تضارب المصالح الخاصة بدول كبرى مع المصالح العربية والرغبة العارمة لدى غالبية العواصمالغربية بزعامة الولاياتالمتحدة فى وقف هجمة اليونسكو على مصالح إسرائيل وواشنطن. والآن يتبادر سؤال هام : هل سيتدهور وضع القدس والحق الفلسطينى فى يونسكو أودرى أزولاى؟ وهنا يأتى الرد بأن كافة الدلائل تشير إلى أنه لن يختلف كثيرا عن يونسكو البلغارية إيرينا بوكوفا التى وصلت لموقعها عقب إطاحة اللوبى الصهيونى بالوزير المصرى السابق فاروق حسنى. لمزيد من مقالات طارق الشيخ;