تاريخ الإسلام ملئ بأمهات الشهداء اللاتي ضربن أروع الأمثال وأعظمها وأقدرها علي التضحية والإيثار, وأسماء بنت أبي بكر واحدة من هؤلاء العظيمات.. فهي صحابية من الفضليات السابقات إلي الإسلام, وكانت تكبر أختها السيدة عائشة أم المؤمنين بعشر سنوات. لقبها الرسول بذات النطاقين لأنها هيأت له لما أراد الهجرة سفرة( طعام) فاحتاجت إلي ما تحزمها به, فشقت خمارها نصفين, فشدت بنصفه السفرة, واتخذت النصف الآخر منطقا( حزاما). أسلمت بمكة, وتزوجها الزبير بن العوام, وهاجرت وهي حامل منه بولده عبد الله, فوضعته بقباء فكان أول مولود يولد في المدينةالمنورة بعد الهجرة, عاشت إلي أن وصلت إلي المائة عام وشهدت تولي ابنها عبد الله الخلافة, وماتت بعد أن قتله الحجاج بقليل. وكان لأسماء دور بارز في بيت أبيها حيث ترك أبو بكر( رضي الله عنه) أباه شيخا كبيرا ضريرا, وخرج مهاجرا بكل ماله في سبيل الله, فقال أبو قحافة لأسماء: ماذا ترك لنا أبو بكر؟ فأخذت ظرفا وملأته بالحجارة وحركته وقالت: ترك لنا هذا المال الكثير, فأراد الشيخ أن يحمل الظرف فإذا هو ثقيل, فقال: هذا مال كثير, فمن تركه لا عليه أن يسافر ويخاطر!. تقول أسماء: لا والله ما ترك لنا شيئا, ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك. لقد استخدمت( رضي الله عنها) فطنتها وعقلها لتستر أمر أبيها وتسكن قلب جدها الضرير وتخفف من حزنه ولوعته علي ابنه المهاجر الذي كان يرعاه ويقوم علي أمره وكلها ثقة أن الله عز وجل لن يضيعهم. وبعد هجرتها كانت شخصا فاعلا في دعوة النساء في المدينة وتعليمهن, وكانت نساء قريش يعرفن الكتابة ونساء الأنصار لا يعرفنها, فكانت نساء المهاجرين يعلمن نساء الأنصار ما تعلمن به القرآن من الكتابة, وكانت أسماء قد حفظت بعض القرآن قبل هجرتها فشرعت في تعليم نساء الأنصار أمور دينهن, وكانت( رضي الله عنها) تسمع حديث النبي( صلي الله عليه وسلم) فتحفظه وتعلمه غيرها, وقال النواوي رحمه الله: روي لأسماء عن رسول الله- صلي الله عليه وسلم- ستة وخمسون حديثا. كان ابنها عبد الله بن الزبير قد خرج علي بني أمية وبايعه الناس في الحجاز والعراق علي الخلافة ودارت بينه وبين بني أمية حروب, وقد لجأ( رضي الله عنه) إلي البيت الحرام, ولما رأي أنه لا طاقة له بحرب بني أمية ذهب إلي أمه أسماء يستشيرها في الأمر فقال: كيف أصبحت يا أمة؟ قالت: إن في الموت لراحة, وما أحب أن أموت إلا بعد خلتين( أمرين), إما أن قتلت فأحتسبك, أو ظفرت فقرت عيني. قال: يا أمة إن هؤلاء قد أعطوني الأمان, فماذا تقولين؟ قالت: يا بني أنت أعلم بنفسك, إن كنت علي حق وإليه تدعو فلا تمكن عبيد بني أمية منك يتلاعبون بك, وإن كنت علي غير الحق, فشأنك وما تريد. قال: يا أمة إن الله ليعلم أني ما أردت إلا الحق ولا طلبت غيره, ولا سعيت في ريبة قط. ثم قال: يا أمة إني أخاف إن قتلني هؤلاء القوم أن يمثلوا بي. قالت: يا بني إن الشاة لا تألم للسلخ إذا ذبحت. قال: الحمد لله الذي وفقك, وربط علي قلبك, ثم نزل فقاتل حتي قتل. ومن مواقفها التي تدل علي شجاعتها أنه عندما قتل الحجاج ابنها عبد الله ابن الزبير وصلبه, أرسل إليها لتأتيه فأبت, فأرسل إليها مرة أخري محذرا لتأتين أو لأبعثن من يسحبك بقرونك, فأرسلت إليه قائلة: والله لا آتيك حتي تبعث إلي من يسحبني بقروني, فلما رأي ذلك أتي إليها فقال: كيف رأيتنني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه, وأفسد عليك آخرتك, وقد بلغني أنك كنت تعيره بابن ذات النطاقين, فقد كان لي نطاق أغطي به طعام رسول الله من النمل ونطاق لا بد للنساء منه, فانصرف ولم يراجعها.. ومن أبرز مواقفها التي أنزلت فيها آية من آيات القرآن ما فعلته مع أمها قتيلة بنت عبد العزي- وكان أبو بكر طلقها في الجاهلية- عندما قدمت إليها بهدايا فأبت أن تقبلها, وأرسلت إلي عائشة لتسأل الرسول الكريم عما يمكن أن تفعله, فقال: لتدخلها وتقبل هديتها ونزلت الأية لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين( سورة الممتحنة) وهذا درس عظيم في بر الوالدين وحسن معاملة الآخرين أيآ كان مذهبهم أو دينهم.