ينهى الروائى البرتغالى الفذ جوزيه ساراماغو روايته (العمي) بجملة دالة، تأتى على لسان زوجة الطبيب، التى باتت تتأمل حال مدينتها الغارقة فى العمي، بعد أن ضربها وباء غامض، فلم يعد يرى أهلها شيئا، فتقول: (لا أعتقد أننا عمينا، بل اعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون). يوسع ساراماغو من دلالة العمى هنا، ولا يجعله مقتصرا على فقدان البصر، بل يجعله بالأساس مرادفا لفقدان البصيرة، وانهيار المعني. وفى أجواء يهمين عليها التصور السلفى للعالم، تحل الخرافة محل العلم، وتتحول الميتافيزيقا إلى أداة رئيسية لرؤية العالم، ويصبح الكلام الساذج شهوة، والرطان الفارغ غاية، ويبدأ البعض فى الدفاع عن الماضى بوصفه مقدسا، لا يجب المساس به، فيرونه بوصلة للحاضر، وطريقا للمستقبل، ومن ثم تحل الكارثة، وندخل فى نفق مظلم لا يكاد ينتهي، فيتحدث البعض عن مضاجعة الوداع، ومضاجعة البهيمة، فى سحق متواتر لإنسانية الإنسان، وتصبح الفتاوى الشاذة التى تخون الفطرة الإنسانية قبل أن تخون العقل هى السائدة، فى مناخات يسيطر عليها العقل الماضوي، ويدفعها صوب الركون والاستنامة، وإلغاء العقل والتفكير. يحتاج التنوير مناخا داعما لا معاكسا، وللأسف الشديد فإن البنية المعرفية الصدئة والغارقة فى الخرافة، تمثل عقبة رئيسية فى هذا السياق، فالذهنية العربية التى اعتادت أن ترى العالم يقينيا والتصورات جاهزة، ستعانى كثيرا فى مواجهة عالم نسبى قائم على الشك والمساءلة أكثر من اعتداده بالإقرار واليقين. تمثل قيم الرجعية أسوارا صلدة فى مواجهة أفكار التنوير، فإذا كان المبدأ المركزى فى التنوير ينهض على استخدام الإنسان الفرد للعقل بشجاعة وبلا خوف، فإن التصورات الرجعية للعالم تجعل الفرد يخشى التفكير أساسا، ويصبح النقل لديه سابقا على العقل، والاتباع مقدما على الإبداع، كما أنها تجعل من التفكير خطيئة، وإذا ما استخدم أحد ما عقله بشجاعة حقيقية فإن سيوف التكفير وسهام المصادرة تكون هى اللغة التى تواجه المفكرين الحقيقيين على غرار ما حدث من قبل مع طه حسين، ونصر أبو زيد وغيرهما. يسعى التنوير لاستخدام النزعة العقلانية فى التفكير، وإشاعة أجواء من الفكر النقدى الحر، ويستلزم هذا فتحا للمزيد من النوافذ، وتوسيعا لهوامش الحرية، فلن يكون هناك تنوير حقيقى إذا تقلصت حرية الرأى والتعبير، أو غابت الحريات البحثية والأكاديمية، ويرتبط بهذا أيضا علاقة التنوير بالفلسفة، ومن المخزى فى ثقافتنا العربية أن تتعرض الفلسفة لهذا القدر من العسف والجور، بدءا من تسييد مقولات معادية لروح التفكير الفلسفى على غرار(من تمنطق تزندق)، وحرق مؤلفات ابن رشد، واستعداء الجمهور على الفلاسفة والمفكرين فى سياق مدعوم من الجماعات الدينية التى ترى فى التفكير كفرا، وفى العقل جريمة، لتكتمل المفارقة المأساوية الدالة على حال هذه الجماعات ودورها المركزى فى التكريس للتخلف. يمثل التنوير خروجا من نفق القصور الفردى فى استخدام العقل، إلى براح التفكير بلا وصاية، وبلا أبنية جاهزة، أو رؤى محددة سلفا، وهنا أيضا يصطدم التنوير بإرث الجماعات الدينية التى تنطلق من تصور أحادى للعالم، يدعى اليقين ويحتكر الحقيقة، ومن ثم لا تجعل التيارات الرجعية من الحقيقة غاية، يسعى الناس إليها دائما، ولكن تجعلها (محظية)، ووعاء لأفكارها الماضوية القديمة، وتوظيفاتها السياسية لها فى الوصول للسلطة، والهيمنة على وعى الجماهير من خلال تقديم خطابات عاطفية لا تقول شيئا فى التحليل النهائى لها. وفى مناخ يكرس للخرافة والتصور الغيبى فى رؤية العالم، سيكون التنوير أمرا لا غنى عنه؛ لمجابهة هذا الإرث المدمر للعقل العام، حيث يصبح الدفاع عن قيم التقدم، والحرية، والعقلانية، اشتراطات لاغنى عنها فى البناء الجديد. وبعد.. فى لحظة مفصلية مثل التى نحياها، يتطلب الأمر منا جميعا وعيا بأهمية التنوير فى اللحظة الراهنة، ففى مجتمع ناهض مثل المجتمع المصري، يصبح التنوير غاية وليس ترفا، فعبره نواجه الحاضر بعقل يقظ، ونرنو صوب المستقبل بوعى حر. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;