أدخلنى أبى الفصل، وأشار للأستاذ قائلا: إذا لم يتعلم، عليك به.. ورفع يده، عاليا، ثم خفضها وكأنه يضرب شخصا متخيلا بعصا وهمية. "حاضر يا عم ولا يهمك".. رد الأستاذ. تسمرتُ واقفا، قرب الباب؛ نظراتى تلاحق والدى محتارا.. كيف عنّ له تركي، كأنه لا يعرفني، وحيدا بين أناس لا أعرفهم. "اِجلس مكانك يا ولد".. قالها الأستاذ بنبرة حادة. كان الأستاذ ذا القامة الفارعة يرتدى ثوبا كحليا و”جنبية” بمقبض مذهب، وقد ثبت بحزامها المزخرف مسدسا روسيا، بنجمة حمراء تلمع فوق قبضة الزناد، وبدا أن العصا المتدلية من يده، يا للهول، أطول من قامتي. وإذ رأيت ما رأيت، كدت أفقد صوابى وفكرت بالهرب.. أن أمرق، كالسهم، من الباب وأجرى مبتعدا حتى مسافة آمنة، أستدير وأمطُ لسانى تجاه المدرسة ساخرا وأصرخ، بأعلى ما أمكنني، بتلك المفردة الأثيرة: طزززززز. كنت فعلت ذلك حقا، رغم تأكدى القاطع من أن فمى ظل محكم الإغلاق ولم تصدر عنه نأمة صوت واحدة، وأن قدميّ لم تتزحزحا قيد أنملة من حيث أُمرتُ بالجلوس. كانت المدرسة لا تزيد على فصل واحد، يتكدس داخلها ثلاثة صفوف. كنا نحن الصف الأول، وعددنا خمسة، نجلس فوق الأرضية المتسخة فى الصف الأمامي، أمام المدرس مباشرة، يلينا الصف الثانى فالثالث. تنحنح الأستاذ وأشار إلينا آمرا: صف أول، الطلاب الثلاثة الجدد فقط؛ رددوا بعدي. وبدأ يقرأ بصوت عال وممطوط قليلا: قل أعوذ برب الناس. فردّدت مع اثنين بجواري: أعوذ برب الناس.كرر الأستاذ: قل.. وصمت لحظة.. أعوذ برب الناس. فكررنا: أعوذ برب الناس. صاح غاضبا: قولوا مثلما أقول بالضبط.. وضرب، بالعصا الطويلة، السبورة الخشبية السوداء فأحدثت فرقعة كبيرة ضجت لها حيطان المدرسة وارتجفت قلوبنا فزعا ورعبا. كان أحد طلاب الصف الثالث لاهيا ومسترخيا تماما، آنذاك؛ يفكر فى أمر ما خارج هذه الجدران الكئيبة، وما إن دوت فرقعة السوط حتى تلاها بفرقعة أخري.. طااااااااااااااااااط.. وهكذا ارتفعت الضحكات عالية وغير مبالية بالعقاب، وأسرع الجميع بوضع أكمام قمصانهم فوق أنوفهم حتى قبل أن تهب الرائحة العفنة.. وعوض أن يشاركنا الأستاذ الضحك، ازداد تغيظا وتشنجت عضلات وجهه الصارم ودارت حدقتا عينيه وقد زادتا اتساعا، وتطايرت منهما شرارات الغضب كأنهما سهمان حارقان يوشكان أن يفتكا بنا جميعا. ثم وجّهنا بهدوء ينذر بالويل: قفوا كلكم. وقفنا ولا زال سيل الضحكات هادرا من أفواهنا، عدا طالب وحيد وبدين جدا؛ ظل ساندا ظهره على الحائط، فاتحا فمه وسابحا فى نوم عميق حتى ركله أحدهم ركلتين متتاليتين على ساقه فانتبه، وتحامل على نفسه حتى استوى واقفا كما لو أنه برميل من لحم ودم، وعلى الفور، غمغم مستوضحا: آه.. الواجب؟ ثم استدرك: أقسم بالله أنى كتبته كاملا يا أستاذ، بس نسيت الدفتر فى البيت.. الله لا رجعنى بين اخوتى لو كنت أكذب. “أسكت يا دُب.. لا رجّعك، آمين”.. حشر المسكين جمجمته الضخمة بين كتفيه وصمت كأن على رأسه الطير. وشرع الأستاذ الفظ الغليظ بالاستجواب: من الحمار ابن الحمار هذا الذى لا يقدر على إغلاق مؤخرته؟.. هيا أخبرونى وإلا ضربت كل الناس. وبالتأكيد، لم يكن يقصد ب”كل الناس” كل الناس، إذ لا يتأتى له ذلك بحال من الأحوال، بينما بإمكانه أن يفعل ما شاء، فقط، بالناس الواقعين تحت رحمته فى تلك الغرفة اللعينة المسماة مدرسة. أُصبنا جميعا بالخرس ولم ينبس أحدنا ببنت شفة. حسنا.. كلكم ضراطون إذن ومجموعة طراطير لا تستحقون إلا الجلد.. الواحد يتعب معاكم حتى روحه تروح وما فيش فايده.. بس راح أوريكم. وما ثمّ أن شرع بسلخ الأكف، بدأ بأول واحد، وكنت أنا هو أول واحد.. خمس جلدات حاميات حتى خالطنى الشك فى أن كفى انخلعت ولم تعد جزءا من جسدي. وكان أن فعل ذلك بالجميع حتى تكسرت العصا واستبدلها بأخرى مخبّأة وراء السبورة. وللحظة طغت عليّ مشاعر حب الانتقام، وداهمتنى أحلام اليقظة: انتزعتُ المسدس من خاصرته وصوبته باحترافية أبطال الأفلام البوليسية تجاه جمجمة الأستاذ الكبيرة، أطلقت الرصاص، ببرود كأى مجرم متمرس، رصاصة إثر رصاصة، مستمتعا بمنظر نافورات الدماء تنساب فوق الأرضية وتتلوى كثعابين حمراء فاقعة، مصحوبة بصخب الطلاب وتصفيقهم الحار.. وهكذا تخيلت أنه مات فعلا، وأن عينيه هاتين الحمراوتين كالجمر ليستا سوى عينيّ ميت! رغم أنه كان لما يزال واقفا والعصا تهتز بيده متوعدة أيدينا الجاهلة بالعلم اللاسع، وصوته يتردد بقوة ووضوح تام: قل أعوذ برب الناس.