جاء إلى المدينة بعد أن هرب من الجنوب على اثر مشادة كادت تودى به، كان والده قد بنى بيتا وأجّره بعد تغربه للعمل بالخليج عشرين عاما ، يأتى على رأس كل شهر فيجمع الايجار من السكان ويعود لقريته بالصعيد، حين جاء ولده هربا بنى له شقة فوق الدور الأخير ، كانت البلاد تعيش أجواء ثورة عارمة والقانون مُعطّلا، استأجر له محلا لبيع الخضراوات، وذات يوم تجرأ فصفع سيدة فوق وجهها طالبته بالعدل فى الميزان ، صرخت، فانتشر الخبر بالمنطقة وما هى إلا لحظات حتى جاء لنجدتها سيل من الشباب الصغير أصدقاء أبنائها فسمعنا ألقابا مرعبة مثل: سنجة، وشطية، وريشة ، هجموا على محل الخضار وحطموا أقفاصه وأحالوه إلى صحراء فارغة، جرت حبات الطماطم تحت أقدامهم وأقدام العابرين فأحالت الأسفلت للأحمر الفاتح والبصل صار كرات تجرى فى كل اتجاه والفلفل فرقع تحت حركة الأقدام المتداخلة ، واختفى الهارب وانسحب المهاجمون بعد أن أفرغوا شتائم عليه شملت أجداده من السابع حتى أحدث جد له، وأكثرها شدة كانت من نصيبه ووالديه لا سيما أمه ، وحتى يستطيع العيش جرّب العمل فى مهن كثيرة يحدّث نفسه : كل أصحاب الأعمال جشعون ،يودون أن تظل تعمل لهم وهم يكسبون حتى تنسحق أنت كرماد ، سأقيم عملى الخاص هنا بالمنور فالبواب قد تركه ومضى ، لو اعترض السكان سأسب أول المعترضين بقسوة سيخاف الآخرون إلى أن يعتادوا الأمر. عاد بعد فترة غياب فجلس بباب العمارة التى بناها والده، يشاكس الصغار ويصطنع معارك مع أى عابر سبيل لا سند له، وفى أحد الأيام انطلق صاروخ تقطيع الألمنيوم مُؤذنا ببدء المشروع، ينطلق فيصدر صوتا كصوت طائرة تتحطم ، الاثنا عشر ساكنا لم يستطع أحد منهم مناقشته فى الأمر فهو بلا كبير يرده، والحوار معه محفوف بالخطر فسينفتح فمه على سيل من الشتائم وسيهب الجيران ويمنعون الاشتباك وينصرفون فيعاود عمله ، حين اشتد الأمر على أحد السكان ولم يعد يطيق المكوث فى البيت من هذه الأصوات الحادة المتداخلة طلب منهم الاجتماع حتى يتداركوا الأمر فجاء ردهم على طريقة: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، فذهب له وحيدا ليطلب منه وقف هذا العمل لأنه مخالف فالمنوّر منفعة عامة تخص كل السكان فقال له: أنت الوحيد الذى كلمنى فى الأمر ، وأصبح مدخل العمارة يزدحم بالأبواب والشبابيك المُصنعة والساكنون يعبرون بالكاد وهم يتفلتون من بين القطاعات المتراصة لأجل التقطيع وجاءت السيارات لتحمل منتجات الألمنيوم لتسويقها والسلم صار مكانا للتخزين والساكنون أصبحوا يأكلون قطاعات الألمنيوم حتى أقفلت على شفاههم ويمضون مبتهجين! وبعد شهر بيعت شركة المنتجات الورقية المملوكة للحكومة فى إطار الخصخصة لأحد رجال الأعمال ليقرر تخفيض العمالة فوجد الساكن المعترض نفسه فى الشارع يقبض على مستحقات زهيدة لقاء عمله عشرين عاما كمكافأة نهاية الخدمة وهو بالطريق لبيته تفتق ذهنه عن فكرة طالما راودته وهى أن يربى خنزيرا فبما أن ابن صاحب البيت أنشأ ورشة بالمنوّر فبإمكانه إقامة عشة للخنزير فى ردهة المدخل؛ وعندما يعترض أحد سأفعل مثلما فعل صاحب الورشة وفى أعياد الميلاد سأبيعه وأكسب ما يمكننى من شراء آخر. فى الصباح وجد صاحب الورشة الناشئة الخنزير يشمشم على باب عشته فسبّه وصاحبه سبا صريحا مستعيذا بالله من النجاسة. هبط لصاحب الخنزير مسرعا بملابسه الداخلية تتبعه امرأته. والله عال، يعنى على آخر الزمن تقلب العمارة حظيرة خنازير! أحسن من الورشة، على الأقل لا تصدر صوتا مزعجا يقلق راحة الناس ويأتى بالأمراض! ناس أى ناس؟ السكان السكان راضون، قانعون ويعيشون فى حالهم، يعرفون قيمة أصحاب البيوت ويقدرونهم، وأصبحوا يمضغون قطع الألمنيوم، أنت الوحيد المريض وتريد أن يصبح الآخرون مرضي!