من عاداتى التى أستمتع بها فى الطريق، سواء كنت أمشى أو أركب سيارة، قراءة المكتوب من جمل وعبارات على سيارات النقل والأجرة والميكروباص والكارو، وصولا لما يُكتب على التكاتك أخيرا، وغالبا ما تشدنى عبارات منها لا تكون عادة مجرد جمل عابرة، لكنها غالبا تكون نتاج خبرات كثيرة أو حكمة ذات مغزى عميق. وكثيرا ما تكون العبارات ليست مجرد جمل محفوظة أو عبارات مأثورة، لكنها تكون عبارات مسجوعة من تأليف كاتبها أو ابتكار صاحب السيارة!. والمتأمل لتلك العبارات سيجدها لا تخلوا من نظرة فلسفية للحياة والبشر. .................................................................................. وهذه الظاهرة ليست جديدة ولا حديثة، بل تعود إلى التاريخ المصرى القديم، فقد قدس المصريون القدماء الكتابة والقراءة بشكل كبير لدرجة أنهم هجوا المهن الأخري، وشجعوا النشء على تعلم الكتابة والقراءة ووضعوا من يتعلم الكتابة على قمة المتقدمين إلى الوظائف. وللمصريين فضل كبير على الإنسانية فى اختراع الكتابة والتى سماها الإغريق الخط الهيروغليفى وتتكون أبجديتها من 24 حرفا، واستخدم المصريون القدماء المداد الأسود أو الأحمر فى الكتابة على أوراق البردي، وقد اهتم قدماء المصريين بالكتابة بشكل كبير حتى إن أحد الحكماء المصريين القدماء كتب لابنه وصية قال «وسّع صدرك للكتابة، وأحبها حبك لأمك، فليس فى الحياة ما هو أثمن منها». كما برع الأديب المصرى القديم فى كتابة القصص، وكان فن القصص المصرى الشعبى القديم متطورا إلى درجة أن بعض الأنماط القصصية التى عرفت وانتشرت فى جميع أنحاء العالم كان مصدرها القصص المصري. وعبر 3500 سنة استمر تقليد الكتابة على جدران المعابد والمقابر حيث كتب المصريون على جدرانهم عن الحب والعشق، مثلما نرى على جدران معبد نفرتارى بأبو سنبل ما كتبه «رمسيس الثاني» عن زوجته الحبيبة بأنها «ربة الفتنة والجمال وجميلة المحيا وسيدة الدلتا والصعيد». كما كتبوا فى الدين كما يظهر فيما كتبه «اخناتون» فى وصف الخشوع لإلهه.. غير الكتابة فى الأدب القصصى والمديح والفن والبراعة والتميز فى كتابة تاريخهم، وأخبار انتصاراتهم على الجدران. ربما لهذا السبب يشدنى دائما ما يكتب على السيارات أو جدران الأبنية.. إنها ولابد موروث ثقافى داخلي، فقد بدأت الكتابة على الجدران من زمن قدماء المصريين مرورا بأجيال متعاقبة، فالمصرى كتب على جدران بيته عبارات الفرح والتهنئة برجوع الحجاج، ورسم أيضا ما يدل على ذلك، وعبر عن غضبه وكرهه للاحتلال الانجليزي، أو الفرنسي، بكتابة العبارات المعادية والرافضة للاحتلال على جدران الشوارع وفى الاماكن العامة نجد الكتابات أيضا على عربات الحنطور والسوارس. وتذكروا معى مقاعد المدارس وما كنا نكتبه ونقرؤه عليها، فدائما ما كانت تشبه حديقة الهايد بارك، بما كتب على أسطحها فى شتى الموضوعات من آراء فى المعلمين، وهجاء الزملاء، ومدح آخرين، وآراء فى المدرسة والتعليم حتى إن بعض الكتابات أحيانا كانت تخص الحياة الاجتماعية للطلبة، كما لم تخل من عبارات الحب. والآن ننتهج نهج أجدادنا دون أن نشعر، مع تغييرات وإضافات مما تجود به القريحة المصرية المبتكرة لكل غريب. ما زلنا نكتب ما نشعر به من غضب وحب وكره وأحلام على حوائط الجدران والعربات، بل نكتب على العملات الورقية ونستخدمها كبطاقات للمعايدة أو المباركة أو رسالة للغرام. ببساطة نكتب على كل ما نستطيع الكتابة عليه، كل على حسب ثقافته وشخصيته ومجتمعه الصغير. نسير فى طرقات مصر فنقرأ أسماء الأحباب، والشعارات السياسية، وذكريات الأصدقاء، وشكاوى صعوبة العيش وقهر الزمن، والأدعية للأبناء، وهتافات للنادى المحبب. كل هذا ليس مجرد كتابات بل توجهات وأفكار مجتمع تتداخل وتعلن عن نفسها. إن الكتابة على جدران الحوائط والسيارات والتكاتك ليست دائما تشويها وسلوكا غير حضارى وليست دائما مظهرا من مظاهر طبقة أدنى فى المجتمع. فقدماء المصريين وثقوا حياتهم بكل جوانبها على جدران المعابد والقبور، حيث رسم المصريون ولونوا رسومهم، وكتبوا عن جوانب كثيرة فى حياتهم ووصاياهم وحكمهم. وجدران المعابد المصرية تثقلها أخبار انتصارات فرعون، كما تحكى المسلّات للعالم حتى اليوم تاريخ أناس عاشوا فى عهود سحيقة، ومداخل المقابر تحذِّر العابثين واللصوص مما ينتظرهم من لعنات الراقدين فيها، أطباق الطعام تمجِّد الإله «آمون» أو «رع» واهب الحياة. واللافت للنظر أن قدماء المصريين كانوا يكتبون وينقشون على جدران المعابد والأهرامات والمقابر لتوثيق علومهم وثقافتهم وطريقة حياتهم، على الرغم من توافر ورق البردى فى ذلك الوقت!! وتطورت الكتابة على الجدران بمرور الوقت، وأصبحت لدى بعض الشعوب شكلا من المقاومة، واستخدمتها الشعوب المقهورة للتعبير عن رفض المستعمر. لكننا فى مصر القديمة والحديثة كتبنا ليس فقط للمقاومة، بل كتبنا حياتنا بأكملها أحزانها وأفراحها، آمالها وخيباتها. وهذا العشق للكتابة وسطر المشاعر بكل اختلافاتها غالبا لا يوجد مثله فى دولة من دول العالم سوى مصر. وكما قال الكاتب «إدواردو غاليانو»: «الجدران دور نشر الفقراء». ولا ننسى هنا أبدا ما سجله الدكتور «سيد عويس» رائد علم الاجتماع فى كتابه الفريد «هتاف الصامتين»، من مئات العبارات التى جمعها من على السيارات فى جميع محافظات مصر، وبتحليل مضمونها أيقن أنها «هتاف صامت»، أو بالتعبير السودانى «كلام ساكت»، يعبر عما يجيش فى صدور الناس بدقة كبيرة. وبعيدا عن الإرث الثقافى لدينا فى حب التعبير عما يجيش بداخلنا وعشقنا للتدوين والكتابة فإن الإنسان عموما ودائما يحتاج لمن يسمعه رغبة منه فى الاهتمام وايصال ما يريده لذا فهو يلجأ للكتابة فى أى مكان وأى زمان فى محاولة منه لإيصال آرائه وأفكاره ومشاعره وهمومه. اسمعوا ثم اسمعوا وتفهموا!.