البشر فى بلادى جزء من كتاب الحكايات ، وخاصة الحكام والولاة ، أيامهم أخبار ، لياليهم أسرار ، وكلماتهم روايات ، وسكناتهم وحركاتهم تستحق أن يحكيها الراوى على الربابة ، وحكاية هذا الأسبوع عن عباس الأول إبن طوسون ابن محمد على ثالث حكام الأسرة العلوية و يقال إنه كان حبيب جده و لكن الغريب أن صفاته جاءت على العكس من جده المستنير . وقد أخترت أن أكتب عنه بعد أن عثرت على صورة قديمة له بين أوراقى القديمة فوجدت بين ملامحه شيئاً غريباً دفعنى للكتابة عنه خاصة أنه كان ضحية أول جريمة قتل فى الأسرة العلوية . وقد بدأت القصة عام 1848 بعد وفاة إبراهيم باشا تولى عباس الحكم طبقاً لفرمان ولاية العرش وقد وصفته الكتب بالتخلف و الرجعية و ألصقت به تهمة إعادة مصر الى الوراء بإغلاقه المدارس و إعادته للبعثات من الخارج و تشريد العلماء ، و يقال إنه كان يعيش فى عزلة فى قصور على أطراف الصحراء لإصابته بالصرع محاطاً بالخدم و العبيد و الحيوانات وقد قال الياس الأيوبى عنه ( أن فترة حكم عباس التى دامت 6 سنوات كانت كابوساً على العباد ) . وقد طاردته شائعة محاولة قتل عمته الأميرة زهرة باشا الشهيرة بنازلى هانم أرملة محمد بك الدفتردار ، و لكن هذه الحادثة كانت بالغة الأثر فى إنهاء حكمه بمقتله فى سرايا بنها العسل ليلة عام 1854 . و فى حادث مقتله روايتان الآولى أن عمته هى التى دبرت المؤامرة حيث دست له غلامين جميلين كلفتهما بالسفر إلى مصر كما يقول جمال بدوى فى كتابه « مصرمن نافذة التاريخ « و أمرتهما بالتحايل عليه بالالتحاق بخدمته و قتله ، فلما جاء الغلامان الى القاهرة ، عرضا نفسيهما فى سوق الرقيق فإشتراهما وكيله و ألحقهما بخدمته . و كان من عادة عباس أن ينام فى حراسة غلامين ، فلما جاء دورهما ، إنتظرا حتى غط فى النوم و أخمدا أنفاسه و هربا الى الآستانة . أما الرواية الآخرى فتقول إنه فرق بين عبيده و مماليكه فى توزيع المنح و العطايا من الرتب العسكرية و الأراضى الزراعية ، و أمر بجلد بعضهم و تجريدهم من رتبهم ، فأسروها فى قلوبهم و أضمروا له الشر وإتفقوا مع حراسه الذين فتحوا لهم باب قصرة فقتلوه و هو نائم . و يحكى بيتر كرابيتس فى كتابه» إسماعيل المفترى عليه « بقية الحكاية فيقول: « تلقى الفى بك محافظ القاهرة دعوى فجائية للإسراع ليلاً الى سراى بنها العسل حيث وقع الحادث ، فأصدر أوامر مشددة الا يذيع أحد خبر وفاة الوالي. و عندما وصل أمر بإحضار المركبة الرسمية الى مدخل القصر ووضع جثة عباس فيها كما يجلس الحى و جلس هو مواجها لها حسب العادة .ثم سارت بهما المركبة الى القاهرة يحيط بهما الحرس بالأبهة المعتادة . و لما وصل الموكب الى القلعة أمر الفى بك بتصويب المدافع الى القاهرة وأعلن للناس موت الوالى و بأنه سوف ينادى بابنه الهامى باشا حاكماً على البلاد غير عابئ بحقوق سعيد باشا فى الحكم .. و كاد الأمر يفلح لولا تدخل ممثل إنجلترا فتم تنصيب الوارث الشرعي سعيد باشا “ ويذكر « نوبارباشا « العديد من الحكايات عن عباس فى مذكراته منها أنه تحول الى نصف مجنون ففى كل مرة كان الخدم يحملون اليه القهوة أو الماء .. كانت أول حركة تصدر عنه هى دفع الكوب أو الفنجان بيده وهو يقول : « هذا ليس نظيفاً « و يرد المملوك الذى اعتاد على هذه الطريقة « الله يحرمنى من إستعمال ذراعى و ساقى و يجعلنى أقضى حياتى كلها أتسول فى الشوارع .. إذا كان هذا الماء غير نظيف .. فيشربه الوالى . و يقول إن عباس وضع أسساً للتعامل مع الزوار الأجانب فقال : « إننى لا أريد أن يتحول قصرى الى مقهى .. حيث يدخل المرء لكى يثرثر لأنه فى حالة فراغ « كما رفض أن يحضر قناصل الدول الأجنبية الى القصر بدون موعد سابق و أصر على أن يرتدوا الملابس الرسمية . أما أطرف ما يذكره نوبار فهو الإزدواجية التى تعامل بها عباس مع العرافين و السحرة الذين كانوا يملأون البلاد... ففى الوقت الذى أمر بطردهم و تشريدهم بحجة أن هذا ضلال و إفك .. كان يرسل لاستدعاءهم سراً الى قصره لإقامة جلسات لاستطلاع الغيب و قراءة المستقبل و الغريب أن هذا كان يتم بإستخدام» عظم كتف خروف مذبوح حديثا ً . و يقول نوبار إن أغرب الأوامر التى أصدرها عباس كانت حينما أمر بحياكة شفتى إحدى نسائه لأنها مارست التدخين فى جناح الحريم . و لكن مما يحسب لهذا الوالى الغريب هو تحمسه لمشروع إقامة خط للسكك الحديدية بين الإسكندريةوالقاهرة عام 1852 . و فى عهده قلت السرقات و الجرائم .. فقد أشيع فى البلاد جنون الحاكم و شراسته فخاف المجرمون ونعم الشعب بالأمن و السكينة . أما العجيب فهو ما يقوله نوبار باشا عن أن عهد عباس شهد تقدماً من ناحية الإدارة ، فقد انتظمت مرتبات الموظفين ، كما أن جباية الضرائب أصبحت تخضع لقواعد واضحة بدلاً من الفوضى الضرائبية التى كانت سائدة من قبل . و قد أصدر قراراً بإلغاء الاحتكار لإعطاء الفلاح شيئا من الحرية . كما تفتق ذهن هذا الوالى المختلف عن فكرة جهنمية فقد أجرى امتحاناً لطلبة المدارس والمدرسين أيضاً فى سابقة تحدث لأول مرة ، فكانت النتيجة غير مرضية ، فما كان منه الا أن أقفل معظم المدارس ، و سرح المدرسين و الطلبة ، و أرسل كبار رجال التعليم و البارزين منهم الى السودان ليتخلص منهم . ثم أنشأ مدرسة جديدة أسماها « المفروزة « لأنه اختار مدرسيها و طلبتها بدقة ( على الفرازة) و بعد كل ما ذكرته فقد مات الوالى قتيلاً فى قصره ، و هلل الشعب لوفاته فقد انزاح الكابوس ، فهل كان الجنون و العقل وجهان لعملة واحدة فى شخصية عباس باشا ؟ والله .. الله على مصر زمان .