صفحة جديدة في كتاب التاريخ.. تعليق مجدي عبد الغني على فوز الأهلي    رسالة شديدة اللهجة من خالد الغندو ل شيكابالا.. ماذا حدث فى غانا؟    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    «حماس» تتلقى ردا رسميا إسرائيليا حول مقترح الحركة لوقف النار بغزة    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    ألاعيب سيارات الاستيراد.. واستفسارات عن التحويل للغاز    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    استشهاد شابين فلسطينيين في اشتباكات مع الاحتلال بمحيط حاجز سالم قرب جنين    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    الأهلي يساعد الترجي وصن داونز في التأهل لكأس العالم للأندية 2025    كولر : جماهير الأهلي تفوق الوصف.. محمد الشناوي سينضم للتدريبات الإثنين    "في الدوري".. موعد مباراة الأهلي المقبلة بعد الفوز على مازيمبي    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    الرجوب يطالب مصر بالدعوة لإجراء حوار فلسطيني بين حماس وفتح    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    حمزة عبد الكريم أفضل لاعب في بطولة شمال أفريقيا الودية    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    السيسي محتفلا ب"عودة سيناء ناقصة لينا" : تحمي أمننا القومي برفض تهجير الفلسطينيين!!    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    البيت الأبيض: ليس لدينا أنظمة "باتريوت" متاحة الآن لتسليمها إلى أوكرانيا    تعرف علي موعد صرف راتب حساب المواطن لشهر مايو 1445    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«علامات على طريق طويل»..سجل إنسانى وثائقى من حياة «الأستاذ هيكل »
فرحتان بسبب عبد الناصر والسادات.. و«سيدة الأمل» ترأس «الجائزة»
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 09 - 2017

فى يناير 1958 كتب الأستاذ يوسف السباعى مقالا جاء فيه «زرت مؤسسة جمعية النور والأمل.. شيء يبعث حقا على الأمل. الأمل فى سيداتنا الخيرات .. النشيطات .. اللاتى يبذلن جهودهن من أجل الخير .. والله والوطن.. وأول من يذكرنى منهن بالنور والأمل ..هى إنسانة راقية كانت تفيض بالحيوية والنشاط ،
أقبلت عليّ فى نادى مصر الجديدة منذ عام 1954 .. تتحدث فى حماس فياض عن مشروع للكفيفات يقوم به بعض سيدات الهلال الأحمر .. وترجو منى أن أعاونها فى الدعوة له، وأن أساعدها فى الاتصال بالصحافة لأجل إقناعها بالمشروع. كانت هذه الفتاة المصرية المليئة بالحماس والأمل .. هى «هدايت تيمور» .. حرم الزميل «محمد حسنين هيكل» الذى يرأس أكبر صحيفة مصرية..تستطيع أن تنشر الأمل فى كل الدنيا..»
ومرت الأيام ودارت ..وفى صبيحة أحد أيام شهر سبتمبر 1981، وبينما الأستاذ هيكل فى سجن طرة، وبرفقته الدكتور عبد العظيم المغربي، وقد فاتحه بأن كل المعتقلين قد فوجئوا بإجراءات اعتقالهم دون فرصة لترتيب ظروفهم، والعام الدراسى على وشك أن يبدأ، وهناك بالطبع أسر بحاجة للمساعدة. وطلب منه «الأستاذ» قائمة بأسماء أولياء الأمور من المعتقلين وبالفعل وضع الدكتور المغربى قائمة، وسربها لأحد أفراد أسرته، أثناء التحقيق معه .. وكانت السيدة التى تطرق أبواب أسر المعتقلين بعد صلاة العشاء سواء فى القاهرة أو خارجها ، كى توصل لهم الأمانة هى السيدة قرينة الأستاذ هيكل، السيدة هدايت تيمور، بناء على طلبه شخصيا!
ونحن نحتفل بيوم ميلاد الأستاذ هيكل غدا ( 23 سبتمبر عام 1923) تحتفل الأجيال الجديدة من الصحفيين بأحدث هدايا مؤسسة محمد حسنين هيكل للصحافة العربية التى صارت ترأسها «سيدة الأمل» السيدة هدايت تيمور، وهى جائزة السبق الصحفى والتحقيق الاستقصائي، التى أوصى بها ضمن ما أوصى لدعم المهنة والأجيال الجدية التى عاش الأستاذ مهموما بها..وفى هذا الملف نقدم سجلا إنسانيا وثائقيا من حياة محمد حسنين هيكل من خلال أحدث الكتب التى صدرت عنه للكاتب خالد عبد الهادى «علامات على طريق طويل ..هيكل لمحات إنسانية».
آلاف المواقف واللمحات الإنسانية والثقافية غاية فى الخصوصية والدقة والفلسفة كان الطرف الأول فيها بحضوره الشديد الأستاذ محمد حسنين هيكل راقبها على مدى 25 سنة بعناية ودأب وسجلها بأمانة الدكتور خالد عبد الهادى فى كتابه (هيكل لمحات إنسانية علامات على طريق طويل) فكانت علامات توضع لأول مرة فى كتاب على كثرة ماكتب ونشر عن الأستاذ فى حياته وبعد رحيله
الكتاب لا يجيب صراحة عن السؤال : كيف أصبح هيكل معجزة عصره وأقوى صحفى فى العالم كما انتهت دراسة جادة نشرتها عام 1971 صحيفة نيويرك تايمز بل ترك ذلك لعشرات الدراسات والكتب التى تناولت صورا متنوعة لأدوار لعبها الأستاذ هيكل فى الحياة السياسية والصحفية، لكن خالد عبد الهادى اهتم برصد المواقف الانسانية متوغلا فى دور الفرد والإنسان فى بيته وأسرته ومن حوله، وعناصر تكوينه وعائلته ومتى يضحك ومتى يبكى علاقاته بالكتب والموسيقى والفن والمدن والعطر والشعر العربى والعالمى..
والمناسبة تستحق أن نتذكر مع أسرته الصغيرة والكبيرة فجر ذلك اليوم منذ 94 سنة حين وضعت السيدة هانم بيومى سلاّم مولودها محمد فى حى الحسين ونقطف من صفحات كتاب خالد عبد الهادى قطوفا نادرة عن حياة هذا المولود الذى صار شابا نابها ورجلا من أهم صحفى مصر لمدة سبعين سنة حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى يوم 17 فبراير 2016
حديث عن الطفولة
الإنسان يستطيع أن يكتشف العالم للمرة الأولى بتجربته الخاصة، وإذا كانت المقادير كريمة معه يكتشفها للمرة الثانية بتجربة أبنائه، وإذا فاضت المقادير فى كرمها وعطائها يكتشفها فى أحفاده،. صورة مشبعة بالانسانية ينقلها خالد عبد الهادى عن الأستاذ كالتالى:
أنا ضعيف جدا مع أولادى (عليّ وأحمد وحسن) وضعيف جدا مع أحفادى (محمد وهدايت ومنصور وتيمور ونادية وراشد وعليّ) .. ضعيف أمام أى طفل، وبينى وبين الطفولة علاقة دافئة. فليس أجمل فى الدنيا من الجلوس برفقة طفل، ملامسة الإنسانية فى براءتها الأولي، خطوات البداية فى رحلة الاستكشاف ..
عندما قمت برحلة إلى أمريكا اصطحبت فيها أولادى لاكتشفها معهم من جديد، ربما كان هدفى وقتها سياسيا إلى حد ما، فقد كنت أشعر بقوة الانبهار بكل ما هو أمريكى فى منتصف السبعينات، ولهذا رافقنى أولادى لمشاهدة أمريكا على أرض الواقع ليعرفوا أنها ليست بالصورة التى تسكن خيالهم، وليست بلاد المعجزات! .. ويسترسل فى حديثه:
أولادى متعة ومسئولية، فأنا مضطر لتحمل همّ تربيتهم وتعليمهم ومتابعة تقدمهم. بينما الأحفاد متعة دون مسئولية، وهنا تكمن الميزة!
فماذا عن الطفولة فى مصر والعالم العربى؟
يراها الأستاذ هيكل، طفولة معذبة ومهدرة .. ففى رحلته الأسبوعية لمنزله الريفى ببرقاش، تستوقفه دائما وجوه الأطفال فى القري، ويلمح ظلال وجوه عليّ مبارك ورفاعة رافع الطهطاوى ومحمد عبده وطه حسين وجمال عبد الناصر .. بينهم نبتة رجل يستطيع صنع تاريخ كامل، لكنهم للأسف فى ضياع .. الطفولة أكبر استثمار لبلد يحترم تاريخه ويعنيه مستقبله، الشباب العظيم لن يوجد مالم تسبقه طفولة عظيمة، والخطوة من نصف الطريق للنهوض بالشباب ما هى سوى قفزة تتعدى البداية الحقيقية عند الطفولة ..
عائلة من ورق الشجر!
تعود أصول عائلة الأستاذ هيكل إلى محافظة أسيوط، المنتمية لإحدى القبائل العربية (البحاروة) المقيمة فى قرية ديروط الشريف التابعة لمركز ديروط، وقد رحل جزء منهم إلى الوجه البحرى خلال القرن التاسع عشر، وأقاموا فى بلدة باسوس التابعة لمركز القناطر الخيرية فى محافظة القليوبية.
وبعدها قدم والده إلى مدينة القاهرة مزاولا تجارة القطن والقمح، وكان لديه شونة (مخزن غلة) فى حى أثر النبى (جنوب القاهرة) لمحاصيل الوجه القبلي، وشونة فى حى روض الفرج (شمال القاهرة) لمحاصيل الوجه البحري، ووابوران طحين فى حى ابو السعود (مصر القديمة)، ومحلج قطن قرب مدينة بنها.
أسرة الأستاذ وجده لأمه (بيومى سلاّم) مارسا كلاهما التجارة، وكان والده مشاركا لجده فى تجارة الغلال السودانية، بين القاهرة والريف.
كان جده لأمه من كبار التجار، فكان لديه عدة وكالات فى السكة الجديدة والحمزاوى (منطقة الجامع الأزهر).
وقد ولد الأستاذ فى حى الحسين (التابع لحى الجمالية) أحد أحياء القاهرة الفاطمية، فى بيت جده لأمه (رقم 8 شارع جوهر القائد)، المجاور لبيت الرافعى وبيت الرزاز.وقد ترعرع الأستاذ مع أبناء خاله (الوحيد) عبد القادر
شريكة العمر ورفيقة الدرب
رفيقة الدرب وشريكة العمر هى السيدة هديت تيمور كريمة السيد علوى محمد أمين تيمور (توفى يوم الأحد 8 فبراير 1976)، ووالدتها هى السيدة: أمينة بسيم (توفيت سنة 1965)، ... اقترنت بالأستاذ هيكل يوم الخميس 27 يناير 1955، وأنجبت له ثلاث أولاد هم: على و أحمد وحسن.
وقد رافقت الأستاذ هيكل فى رحلاته إلى الهند، وهناك شاهدت آثار أباطرة المغول فى فاتحبور سيكرى Fatehpur Sikri (مدينة شمال الهند، غرب مدينة أغرا، أسسها الإمبراطور المغولى أكبر فى القرن ال 16)، وزرت معه الأندلس، فاندهشت بحضارتها.
وأنجبا ثلاثة أولاد هم : الدكتور علي: ولد يوم السبت 12 نوفمبر 1955، والدكتور المهندس أحمد: ولد الأربعاء 28 يونيو 1961، والأستاذ حسن: ولد يوم الجمعة 9 ديسمبر 1966،
ولم يتدخل الأستاذ هيكل فى توجيه مستقبلهم، إلا فى شيء واحد فقط هو محاولته إبعادهم عن مجال الصحافة، وقد اكتسبوا منه شيئا واحدا هو حب العمل والإيمان بأنه مصدر القيمة فى الحياة.
طار فى وجهى نَسْر
لو اخترت طائرا يعبر عن شخصية الأستاذ هيكل لاخترت طائر العنقاء الأسطورى الذى يغش العواصف ولا ينحنى للخطر .. وصف به الأستاذ نفسه شخصية جمال حمدان الذى لا يتكرر ويزور الدنيا كل مائة سنة ليجدد للحياة الصحفية بهائها وخيالها لكن خالد عبد الهادى اختار النسر بلا تردد كرمز للأستاذ، لكن لماذا؟
يجيب: فى نوفمبر 1997 وجهت له سؤالا: «أى من الحيوانات أو الطيور أو حتى الحشرات معجبا بها؟»
وأجاب الاستاذ دون تردد: «النسر»!
وطالبته بتوضيح، فأجاب: «أن النسر له سبع مزايا، وهى:
- رؤية ثاقبة ومركزة، قادر على قيادة الآخرين!
- لا يعترف بالخوف، ويواجه الخطر وجها لوجه!
- يمتاز بالعناد الإيجابى لا السلبي، فهو على سبيل المثال لا يحنى رأسه للعاصفة، بل يرتفع ويرتقى فوقها!
- مغامرا، فعلى سبيل التقريب له طموح الملوك، لا دسائس القصر، كما الحمام على سبيل المثال!
- بعكس ما هو شائع فهو لا يأكل اللحوم الميتة (جثث خامدة جامدة) بل النيئة والطازجة (متعة الخروج للبحث عنها ورصدها)، بمعنى قضاء وقت مع المتحررين فكريا وعاشقى الحياة (لا الموت)!
- رغم حيويته، ولكنه فى سن الثلاثين تقريبا يعيد صياغة نفسه (ليجدد ويعيد انتاج نفسه)، بمعنى تقييم الماضى وعلى أى أرضية يقف (وقفة مع النفس)!
ثم توقف لبرهة، وأمسك علبة كبريت ضخمة، وأشعل عود ثقاب بسيجاره الكوبى الفاخر، وشد نفسا عميقا، واستطرد قائلا:
- المشهور عنه شراسته، لكن ليس مع صغار النسور وشبابها، بل رعايتهم وتوجيههم»! .. وقد عاش الأستاذ هيكل حياته شامخا فى السماء كالنسور، حيث لا قيود، والمجازفة مع الخطر!
الوطن .. سنوات البهجة والسرور
أجاب الأستاذ هيكل مستخدما يديه فى التعبير، وهو يعد على أصابعه المميزة الطويلة التى تشى بقوة التفكير وعمق الرؤية متى فرحت للوطن؟.
فكانت إجابته: فرحت مرتان:
- الأولي: يوم الخميس 26 يوليو 1956، عندما أتخذ جمال عبد الناصر قرار تأميم قناة السويس، تصحيحا لجريمة تاريخية وسعيا وراء ربح مصرى مشروع ... وإذ الدنيا تقوم كلها على أطراف أصابعها، تحبس أنفاسها المبهورة وهو لم يفرغ بعد من قراءة باقى مواد القانون.
- والفرحة الثانية : يوم السبت 6 أكتوبر 1973، فى الساعة الثانية ظهرا، عندما اتخذ أنور السادات وحافظ الأسد قرارا مصيريا بقبول التحدي، والقرار كان يعنى وقتها امتلاك الإرادة، وقيام الجيشان المصرى والسورى باجتياز حائط الخوف، عبر عبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، بينما القوات السورية تتخطى جميع تحصينات العدو فى الجولان وتتقدم بسرعة نحو مدينة القنيطرة .. كانت عاصفة برق ورعد، وكانت ملحمة شجاعة وتضحية، وكان الجندى العربى قد حقق بالعبور ما يشبه المعجزة، ودون تجاوز فقد تغيرت خرائط، واهتزت عواصم، وتلاشت صورا، وصحح خلل الموازين، وتبدى تماسك الأمة العربية وتناسقها، بغض النظر عن الصور النهائية المتباينة مع البدايات!
ففى الساعات الثلاث من بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، كانت مصر وسوريا، والأمة العربية كلها، قد اجتازت حائط الخوف، كاسرة فى كل ساعة أسطورة!
فى الساعة الأولى انكسرت أسطورة العجز العربى عن اتخاذ قرار الحرب، وفى الساعة الثانية انكسرت أسطورة الخوف من العدو، وفى الساعة الثالثة انكسرت أسطورة قوة الردع الإسرائيلية التى لا تقهر!
.. ومن أغرب الشهور
فى أغسطس سنة 1999 كان الأستاذ هيكل يقضى إجازته فى منزله بالساحل الشمالى ويطالع كتاب: «Endgame: Solving The Iraq Crisis - نهاية اللعبة: حل أزمة العراق» وهو لسكوت ريتر Scott Ritter (مفتش الأمم المتحدة على الأسلحة فى العراق 1991 - 1998).. بعد قليل رن الهاتف (الواحدة ظهرا تقريبا)، وحولت إليه المكالمة (لم تستغرق بضع دقائق)، تحمل له خبر وفاة سكرتيرته السابقة السيدة نوال المحلاوى (الثلاثاء 17 أغسطس) - كان الخبر مزلزلاً .. قرر الأستاذ قطع إجازته فورا، والعودة إلى القاهرة للمشاركة فى جنازة الراحلة (هى خريجة الجامعة الأمريكية، وباتت شخصية ذائعة الصيت فى مصر والعالم العربى كونها مديرة مكتب الأستاذ هيكل.
زمن الشعر !
لاحظت أن كل فصل من الكتاب يبدأ بعنوان قصيدة للشاعر العربى أدونيس فسألته : إيه الحكاية أعرف أن الأستاذ لا يعترف بالشعر إلا العامودى منه (فالموسيقى والصورة بادية فيه حاوية حجم التجربة الإنسانية وشعورها وحكمتها)، بينما يعتبر الشعر الحر جمل نثرية جميلة لكنها لا ترقى لأن تكون شعرا، عوضا على أنها تجربة لم تكتمل بعد (قد تكون عابرة)، فضلا على أنها مستوحاة من الغرب. لا يستسيغ الشعر المنثور أو قصيدة النثرالتى يبرع فيها أدونيس، ولو بدأت كل فصل أو كل سطر بشعر المتنبى أو شوقى لصفق لك الأستاذ، فكانت إجابة الدكتور خالد عبد الهادى مما قاله الأستاذ: أنا أحفظ حوالى عشرة آلاف بيت من الشعر أرددها باستمرار كلما أمكن. ليس فقط من باب التذوق. ولكن أيضا لتقوية الذاكرة..وعلى فكرة أنا فى يوم من الأيام حاولت أن أكون شاعرا وكتبت شعرا رديئا.. هى محاولات ساذجة فى أيام الصبا، والمذاكرة. وبنت الجيران. وأنا اذكر واقعة محددة قلت فيها شعرا، لأنه سبب لى مشكلة. فقد كانت بنت الجيران تخرج إلى الشرفة لابسة ثيابا سوداء. ويبدو أن أمها التى كانت تكره السواد ضغطت عليها، فغيرت البنت ثوبها إلى اللون الأحمر، وفوجئت بها فى الشرفة مرتدية هذا الثوب. فسارعت إلى كتابة بيتين من ذلك الشعر الرديء قلت فيهما:
مَاذَا بِقَلْبِكِ يا حَسْنَاءُ مَنْ وَجْدٌ يَضْطَرِبُ
أَحَالُ الْفَحْمَةُ السَّوْدَاءُ إِلَى حَمْرَاءُ تَلْتَهِبُ
نقلت البيتين فى ورقة ناولتها لشخص كان يعمل فى بيتنا، وطلبت منه أن يوصلها إلى بنت الجيران، وذهب إلى بيتها فعلا، لكنه أعطى الورقة إلى أمها .. وجرى ما جرى .. لكن لم استمر فى كتابة الشعر لحسن حظ الناس ولحسن حظى.. ثم خطفتنى الصحافة».
ومنذ لقائى الأول مع الأستاذ هيكل يواصل خالد عبد الهادى مساء يوم الثلاثاء 21 يونيو 1994، وإلى لقائى الأخير معه صباح يوم السبت 18 أبريل 2015، كان مما تطرقت له حواره السابق، عن الشعر ورقم العشرة آلاف بيت من الشعر العربى ..
وسأذكر فيما يلى ما سمعته منه وما دونته حينها فى أوراقى من شعر:
- أَحْمَدْ شَوْقُي:
غُلِبُوا عَلَى أَعصَابِهِمْ فَتَوَهَّمُوا أَوْهَامَ مَغْلُوبٍ عَلَى أَعْصَابِهِ
الأستاذ هيكل يعتبر «أنه من بعد أحمد شوقى لم تشهد مصر تجربة شعرية ضخمة»! .. وفى رأى الأستاذ «أن شعر العقاد بنيان عقلى أخاذ، لكن تلك هى النقطة الرخوة فيه، فهو عقلانى تجاوز الضرورى من الشعر: عقل وروح، مفتقرا بقسوة إلى الإحساس».
ويضيف خالد عبد الهادي: ذهبت يوما فى شهر نوفمبر 1997 لزيارته برفقة الأستاذين مصطفى ومحمود بكرى ومجموعة من صحفيى جريدة «الأسبوع». وكانت الأخبار متواترة عن نية الإدارة الأمريكية بشن ضربات على العراق. وقد سأل أحدهم، الأستاذ هيكل: عن تصوره لشكل المنطقة بعد الضربة الأمريكية وإزاحة الرئيس صدام حسين؟
وكان رد الأستاذ بالحرف تقريبا، سأحكى لك حكاية قصيرة وسريعة وأنت بعدها تستطيع أن تستخلص الإجابة!
كان صديقى الأستاذ كامل الشناوى يحضر حفلاً لتأبين زعيم حزب الوفد سعد زغلول، وقد حضرها الأستاذ عباس محمود العقاد، و ألقى قصيدة لهذه المناسبة بعنوان «ذكرى الأربعين»، وبداية القصيدة:
أَمْضَيْتُ بَعْدَ الرَّئِيس الأربعون عَجَّبَا كَيْفَ إِذَنْ تَمْضِى السَّنُون
وعندما انتهى العقاد من إلقاء قصيدته، عاد لمكان جلوسه، وكان يجلس بجانبه الأستاذ كامل الشناوي، وطلب رأيه، فرد عليه الشناوي: كما مضت الأربعون!
- أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّيَّ:
وَمَاذَا بِمِصْرَ مِنَ الْمُضْحِكَاتِ وَلَكِنهُ ضَحِكٌ كالبُكا
يرى الأستاذ «أن الشاعرين: شوقى والمتنبي، سياسيان، كان الشعر وسيلتهم ومنبرهم للتعبير عن آرائهم وتوجهاتهم السياسية».. حينما تطالع ديوان المتنبى تتحسس الكلمة وبلاغتها وموسيقاها وصورتها.
الأستاذ هيكل تحدث معى بحميمية عن صديقه الشاعر كامل الشناوي، فى إحدى هذه المرات كامل «وجع دماغنا» بشيء أسمه «روز»، «قلت لكامل مين روز التى تكتب لها هذا الشعر الهائل؟ وذهبت معه لرؤية روز، فى كازينو بديعة، وسهرنا حتى ما بعد منتصف الليل، إلى أن انتهت روز مما كانت تقوم به من رقص، وجاءت لكامل قائلة له «كمولتى معاك 50 جنيه؟» وأخرج كامل من محفظته ال 50 جنيه، ولم يعد يراها بعد ذلك! .. ثم علق الأستاذ قائلا «أنا صارحت كامل بأنه يحب الحب شخصيا»!
- صَلَاَحَ جَاهَيْنِ:
مَلَاَيِين الشِّعْب تُدَقُّ الْكَعْب تَقُولُ: كُلّنَا جَاهِزِين
محمود درويش:
وناوله خالد عبد الهادى ديوان ( جدارية ) لمحمود درويش وقال له أى الجمل - النصوص - استقرت فى باب مأثورات ما لديك؟
قلب الديوان ثم توقف أمام تلك الجملة:
وَكُلَّمَا صَادَقْتُ أَوْ آخيت سُنْبُلَةً تَعَلَّمْتُ
الْبَقَاءَ مِنَ الْفَنَّاءِ وَضَدَّهُ
أَنَا حَبَّةُ الْقَمْحِ الَّتِى مَاتَتْ لِكَيْ تَخْضَرَّ ثَانِيَةً
وَفِى مَوْتِى حَيَاةٌ مَا ...
ثم توقف الأستاذ هيكل وقال بصوت مطمئن:
مَا قَيِّمَةُ الرّوحِ إِنْ كَانَ جَسِّمِى مَرِيضًا وَلَا يَسْتَطِيعُ الْقيَامَ بِوَاجِبِهِ الْأَوْلِيِّ؟
توقف الأستاذ برهة، ثم قال بحزم: أنا من الذين يفضلون الحياة مع الخطر على الحياة مع الألم، فالأول مقدس بينما الثانى مهين!
وفى يوم الخميس 12 فبراير 2016 كان الأستاذ على موعد مع ما استقر فى وجدانه من كلمات محمود درويش، قد هرمت السنوات وانزوت الأيام، ووهن الجسد، وبلغت الروح نزعها الأخير، ووصلت الرحلة إلى منتهاها، واكتملت الرسالة، مستعدا لحياة ثانية، داعيا المحيطين به بأن «لا تشاكسوا القدر»!
فكما كتب ذات يوم: «الموت حدث طبيعى من داخل السياق وليس من خارجه، فالموت جزء من الحياة بل هو تجديد لها عبر تدفق إنسانى شاءت له عناية الخالق الأعظم أن يتواصل بمثل تواصل الزمن، وختام كل يوم فى الزمان غروب، ثم إن الغروب سهر فى انتظار شروق جديد، وكذلك تمضى الحياة غلابة على الموت!».. وصباح يوم الأربعاء 17 فبراير كان على موعد مع ملاك الموت، فالتقاه بنور الإيمان منصرفا معه إلى عوالم نائية وغامضة مكتنفة بالأسرار ومغلفة بالألغاز!
عبد السلام شهاب
سألت الأستاذ فى (نوفمبر 2001) عن الشعر الحلمنتيشي، وقدمت له قصيدة قد نظمها الأستاذ عبد السلام شهاب ، بمناسبة مرور عشرين عاما على اشتغال الأستاذ بمهنة الصحافة (فبراير 1962) ..
فسألنى : «كيف عثرت عليها ؟» فأجبت : من صديق مشترك لك ولى .. الأستاذ سمير صبحى سكرتير تحرير الأهرام.. ثم تركنى ألقيها وفى النهاية ابتسم:
والقصيدة بعنوان : هيكل .. زميلا، ومطلعها :
عِشْرُونَ عَامًا وَأَكْثَر .. وَلَيْسَ عَقْلِى دَفْتَر
قَدْ حَلّ فِيهَا زَميلٌ .. مَنْ خَيِّرِ أَبَنَّاء عَبْقَر
فَتًى طَرُوبُ الْمُحَيَّا .. كَالْنِّيلِ أَسْمِرْ أحْمَر
يَطَلُّ مِنْ نَاظِرِيهِ فَكَرٍّ ذَكِيّ .. مُصَوَّر
بِمثلِهِ .. صَحَفِيًّا .. كُلُّ الصِّحَافَةِ تَفْخَر
وفى السياسة أدهى .. من أي نمس وأمكر
وفى السياحة أمضى .. من جاجارين وأمهر
تراه فى مصر ليلا .. والصبح فى مدغشقرْ
والظهر فى نيويورك .. والعصر فى مانشستر
وكلنا قد عرفنا .. هَذَا الزَّميلَ الْمُوَقَّر
مَا زَالَ هَيْكَل يَبْدُو .. أَبْهَى كَثِيرًا وَأبْهَر
وَهَا هُوَ الْيَوْمَ فِينَا.. مَا بَيْننَا قَدْ تصَدَّرْ
شَبَابُهُ لَيْسَ يَبْلَى بِالدَّهْرِ لَا يَتَأَثَّرْ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.