فى هذه الأيام التى يحتفل فيها المسلمون بالعام الهجرى الجديد ترتفع وتيرة تطاول الهوام على الأزهر الشريف، تارة بحجة تنقيح التراث وتارة بحجة تجديد الخطاب الدينى - رغم أن من يتصدى لمثل هذه الدعوات لابد من تضلُّعه فى علوم الدين قبل أن يصدر صيحات وحججاً سطحية ليس الغرض منها إلا تشويه مؤسسة الأزهر والحض من علمائه، ورغم أن القاريء والمسلم البسيط متيقنٌ فى ضميره من خبث طويّة من وراء هذه الحملات - ربما كان من الأولى أن نتناول رأياً هادئاً ونظرة موضوعية للأزهر الشريف ، التى رغم إيجازها تحمل الكثير والكثير من الإنصاف والتجرد والنزاهة والموضوعية ، صدرت من أحد أعمدة الاستشراق البريطانى ، ستانلى لين بول (1854 1931) . ............................................................... بعد الاحتلال البريطانى عام 1882 ، قام المستشرق ستانلى لين بول - حفيد شقيقة المستشرق البريطانى الكبير إدوارد ويليام لين ، مؤلف كتاب « المصريون المُحدثون» – بزيارة لمصر بغرض تأليف كتاب عن المجتمع المصرى وطبقاته وأهله للقاريء الأوروبى الذى كان شغوفاً بمصر بسبب أحداث الثورة العرابية والاحتلال البريطانى . وكانت نتيجة هذه الزيارة أن صدر كتابه « الحياة الاجتماعية فى مصر » بلندن عام 1883 ، والذى صدرت ترجمته العربية أخيراً عن مكتبة الآداب بالقاهرة ، مصحوبةً ب 136 لوحة منقوشة على الاستيل والخشب لمظاهر الحياة فى مصر ، بيد أشهر فنانى انجلترا فى تلك الفترة . تناول لين بول فى الفصل الثالث نظام التعليم لدى المصريين . بدءاً من الكُتّاب حتى الأزهر الشريف ، وكان فى تناوله للأزهر ومقارنته بينه وبين جامعتى أكسفورد وكامبريدج ما يُجبر المرء على الثناء على أحكامه المنصفة . حيث يقول : « إذا رغب الطالب فى الحصول على قمة ما فى التعليم المصري، فعليه أن يحضر الدروس فى المسجد الجامع المسمى « الأزهر ». من الناحية النظرية ، يُعد هذا المسجد مؤسَّسة محترمة؛ فهو مسجد تحيط بصحنه الكبير المفتوح أرْوقة مسقوفة ، وهى مخصصة للاستعمال المنفصل للطلاب من الأمم المختلفة. فعلى سبيل المثال، إن أحد الأروقة مخصص لطلبة المغرب، وآخر للطلبة المكِّيين، وثالث للشوام، ورابع للأتراك ، وهكذا. « يأتى الشباب المتحمسون لطلب العلم إلى الأزهر من أقصى بلاد العالم الإسلامي: من غرب إفريقيا ومن الهند، ومن شبه جزيرة الملايو، ليتعلَّموا علوم الدين الإسلامي، والنحو، وعلم العَروض، وعلم البيان والبلاغة، وتفسير القرآن، والحديث الشريف، والفقه، وكل ما يختص بالنظام العلمى الإسلامي. يشرح الأساتذة المتعلمون هذه العلوم وفق مناهج المذاهب السنيّة الأربعة للإسلام لمجموعات متحمسة من الطلبة يجلسون أمامهم على الأرض فى شبه دائرة، تمامًا مثل الطلبة الصغار فى الكتّاب ، ويتمايلون للأمام والخلف عندما يحفظون بعض الجُمَل المهمة، أو بعض الأمثلة الأساسية للبلاغة العربية وفضائل علم العَروض، تمامًا كما كانوا يتمايلون مِن قبل عند تلاوتهم القرآن أمام معلّمهم الكهل سريع الغضب فى الكتّاب. لكن وإن كانت الرسوم المقدمة للمعلم فى الكتاتيب المصرية زهيدة، فإن التعلم فى الأزهر مجانى تمامًا.وأعظم الرجال المتعلمين فى مصر، وكذلك فى البلاد المحيطة بمصر، يجيئون إلى هنا ليدرّسوا حصيلة علمهم دون مقابل . « يتسلم الطلبة يوميا كميات من الطعام تمدّهم بها المِنحُ الخاصة بالأروقة المنتسبين إليها، و هذه المنح مصدرها أوقاف الناس الأتقياء الذين يرغبون فى سلوك طريقهم الخاص إلى الجنة. ونظرا لأن هؤلاء الطلبة الجادّين - السائرين على طريق العلم والمعرفة - شديدو الفقر، فهم يزيدون من موارد أرزاقهم بقدر ضئيل عن طريق إعطاء دروس مخصوصة و نَسْخ المخطوطات . وبالأساليب ذاتها ، وبتلاوة القرآن فى الاحتفالات، فإن الأساتذة الذين كرَّسوا حياتهم لإلقاء الدروس فى الأزهر يدبرون وسيلة معيشتهم وأرزاقهم. فبعد مرور بعض السنوات من التدريس بالأزهر، غالبًا ما يصبحون قضاة شرعيين، أو مُفتين، أو أئمةَ مساجد، أو مدرسين، لكن بعضهم يظلون طيلة حياتهم «مشايخ» أو « علماء « فى الأزهر، وينالون الشرف المأمول بأن ينضموا إلى الجامع الأزهر» . ثم يتناول ستانلى لين بول الأزهر وقارن بينه وبين جامعتى أكسفورد وكمبريدج ، وبين طلبته والطلبة البريطانيين قائلا : « فى الحقيقة، يعدّ الأزهر جامعة الإسلام. ويُرَى تأثيره فى أى مكان يُعتنق فيه الإسلام على الإطلاق، ويتجمع طلبته من كل أجزاء العالم الإسلامي. إذ نرى فيه شيئًا من الحماسة القديمة والبحث المحض عن العلم والحكمة التى ميزت جامعات أوروبا فى القرن الثانى عشر العظيم، عندما خرّجت علماء، لا نبلاءَ الدول، وأعدَّت الرجالَ لحياة جادة للدراسة، وليس للحصول على لقب اللوردات والانتساب لنادى مورتليك الارستقراطى البريطانى . يُعد نظام التعليم بالازهر مثاليا جداً، فالشباب الفقير الذين يجيئون إليه يرحَّب بهم على الفور، ويتعلّمون كل ما يعرفه الأساتذة، وهذا ما يرادف معنى « التعليم الإسلامي» . ويتلقى الطالب أعلى تعليم يمكن أن يتلقاه المسلم ، بالطرق الإسلامية، دون الحاجة إلى دفع قرش واحد. وعندما نقف وسط حشود الطلبة، الذين يعج الأزهر بعشرة آلاف منهم كل عام، لا نستطيع عند مقارنة الغاية من هذه الجامعة الإسلامية وجامعتيْ أوكسفورد وكامبريدج البريطانيتين، إلا أن نستشعر الخجل ونتعجب أنه مع كل تقدُّمنا الذى نفتخر به، لا نزال حتى الآن متخلفين عن عِرق أجنبى غير متقدم بالنسبة إلينا، حيث لم نكتشف بعد أن التعليم حقٌّ طبيعى لكل مواطن، وأن الدولة يجب أن توفر ذلك التعليم دون مقابل مادى أو ثمن لكل فرد من أفرادها مثل مؤسسة الأزهر. وبدلًا من رسوم الكلية، ورسوم الجامعة، وضرائب المعارك الحربية، ورسوم الخدم، ورسوم المحاضرات، ورسوم الأساتذة الجامعيين، ورسوم الامتحانات، ورسوم الدرجات العلمية، فإن الطلبة الدارسين بالأزهر يتسلمون - إلى حدٍّ ما – الوجبات الغذائية مجاناً ، ويتعلمون بلا مقابل، ويتسلمون إجازة «ليسانس» عن تفوقهم وبراعتهم كمدرّسين وطلاب . وبدلًا من حفلات الخمور و عشاء «شُرب الأنخاب» التى تجرى فى جامعات بريطانيا، فإن طلبة الأزهر يتجمعون معًا على كسرة من الخبز وزجاجة من الماء ليتناقشوا فى مسائل النحو وتفسير القرآن، ويصابون بالصداع من إعمال الفكر وليس من الشرب حتى الثُّمالة . وبدلًا من مضايقة آبائهم بدفع فواتير خياطة وتفصيل ملابسهم، واشتراكات نادى اليخوت ونادى الكروكيه وكل النوادى الأخري، فإن طلبة الأزهر يدبرون مصاريف معيشتهم المقتصدة بأنفسهم. إن أية مقارنة بين الطرفين ستكون فى صالح جامع الأزهر بالقاهرة، ما دام « المبدأ » هو أساس المقارنة، ورغم أن الحقيقة المؤسفة هى أن المواد التى يتعلمها الطلاب فى الأزهر قد تُعدّ أقل إفادةً فى حياتهم بعد ذلك - مثل فن التفعيلات السداسى فى علم العروض والقوافى – فإنها لا تنتقص من جمال ذلك النظام التعليمي». انتهى هنا كلام المستشرق البريطانى بالعبارة التالية : « عندما نقف وسط حشود الطلبة ، الذين يعجّ الأزهر بعشرة آلاف منهم كل عام ، لا نستطيع عند مقارنة الغاية من هذه الجامعة الإسلامية وجامعتيْ أوكسفورد وكامبريدج البريطانيتين ، إلا أن نستشعر الخجل ونتعجب أنه مع كل تقدُّمنا الذى نفتخر به ، لا نزال حتى الآن متخلفين عن عِرق أجنبى غير متقدم بالنسبة إلينا ، حيث لم نكتشف بعد أن التعليم حقٌّ طبيعى لكل مواطن ، وأن الدولة يجب أن توفر ذلك التعليم دون مقابل مادى أو ثمن لكل فرد من أفرادها مثل ما تفعل مؤسسة الأزهر . إن أية مقارنة بين الطرفين ستكون فى صالح جامع الأزهر بالقاهرة ، ما دام « المبدأ » «هو أساس المقارنة». ربما ستظل هذه الشهادة « الغربية « للمستشرق المنصف لين بول التى كتبها بكتبه منذ 134 سنة- تشعرنا بالخجل حين نقارن حالنا زمان والآن ونشاهد من يعادون الأزهر حالياً مفتونين بهذا « الغرب » – نبراساً للتفرقة بين الحُكم المستنير والشهادة النزيهة على الأشياء ، وبين من يموَّل لنشر دعواتٍ مُغرضة ، ويقفز مثل البرغوث بين نفايات الجرائد ومقاعد الفضائيات ووسائل الإعلام والمراكز المشبوهة ، لينال حفنة من المال ، ثم يُلقى بعد ذلك فى مزابل الفكر والتاريخ .