عيار 21 يرتفع لأعلى مستوياته.. سعر جرام الذهب بالمصنعية اليوم الجمعة 19 إبريل 2024 بالصاغة    طلب إحاطة في البرلمان لإجبار أصحاب المخابز على خفض أسعار "الخبز السياحي"    بعد انخفاضها.. أسعار الدواجن والبيض اليوم الجمعة 19 إبريل 2024 بالبورصة والأسواق    الجزائر تتعهد بإعادة طرح قضية العضوية الفلسطينية بالأمم المتحدة    صفارات الإنذار تدوي في شمال إسرائيل وأنباء عن هجوم بالمسيرات بعد الهجوم على إيران    رد فعل صادم من مصطفى يونس على واقعة إخفاء الكُرات فى مباراة القمة    تقارير أمريكية تكشف موعد اجتياح رفح الفلسطينية    «ستاندرد أند بورز»: خفض التصنيف الائتماني لإسرائيل مع نظرة مستقبلية سلبية    أصعب أيام الصيف.. 7 نصائح للتعامل مع الحرارة الشديدة    حظك اليوم برج العذراء الجمعة 19-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    سوزان نجم الدين تتصدر تريند إكس بعد ظهورها مع «مساء dmc»    خالد حسين محمود: مسلسل الحشاشين كان يحمل هدفين الأول تنويري والآخر معرفي    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    ملف رياضة مصراوي.. ليفربول يودع الدوري الأوروبي.. أزمة شوبير وأحمد سليمان.. وإصابة محمد شكري    هدي الإتربي: أحمد السقا وشه حلو على كل اللى بيشتغل معاه    "ليست أول فرصة يهدرها في حياته".. كلوب يعلق على الانتقادات ضد صلاح    صدمة .. إصابة أحد صفقات الأهلي في الميركاتو الصيفي    هدف قاتل يحقق رقما تاريخيا جديدا في سجل باير ليفركوزن    مواعيد أهم مباريات اليوم الجمعة 19- 4- 2024 في جميع البطولات    عز بعد الانخفاض الجديد.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 19 إبريل بالمصانع والأسواق    3 ليال .. تحويلات مرورية بشارع التسعين الجنوبي بالقاهرة الجديدة    الجامعة العربية تطالب مجلس الأمن بالاعتراف بالدولة الفلسطينية باعتبار ذلك سبيلاً للسلام    الهلال الأحمر الفلسطيني: نقل إصابة ثانية من مخيم نور شمس جراء اعتداء قوات الاحتلال    وعد وهنوفي بيه، الحكومة تحدد موعد إنهاء تخفيف أحمال الكهرباء (فيديو)    محمود التهامي يحيي الليلة الختامية لمولد أبو الإخلاص الزرقاني بالإسكندرية (فيديو وصور)    أسعار العملات الأجنبية اليوم الجمعة.. آخر تحديث لسعر الدولار عند هذا الرقم    شاهد.. نجوم الفن في افتتاح الدورة الثالثة ل مهرجان هوليود للفيلم العربي    منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    #شاطئ_غزة يتصدر على (اكس) .. ومغردون: فرحة فلسطينية بدير البلح وحسرة صهيونية في "زيكيم"    البابا تواضروس خلال إطلاق وثيقة «مخاطر زواج الأقارب»: 10 آلاف مرض يسببه زواج الأقارب    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    متحدث الحكومة: دعم إضافي للصناعات ذات المكون المحلي.. ونستهدف زيادة الصادرات 17% سنويا    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    انطلاق برنامج لقاء الجمعة للأطفال بالمساجد الكبرى الجمعة    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    ظهور أسماك حية في مياه السيول بشوارع دبي (فيديو)    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    فيوتشر يرتقي للمركز الثامن في الدوري بالفوز على فاركو    خبير عسكري: هجوم إسرائيل على إيران في لبنان أو العراق لا يعتبر ردًا على طهران    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    فلسطين تدين استخدام أمريكا "الفيتو" لمنعها من عضوية الأمم المتحدة    بسبب معاكسة شقيقته.. المشدد 10 سنوات لمتهم شرع في قتل آخر بالمرج    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    النشرة الدينية.. هل يجوز تفويت صلاة الجمعة بسبب التعب؟.. وما هي أدعية شهر شوال المستحبة؟    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    طريقة عمل الدجاج سويت اند ساور    طريقة عمل الكب كيك بالريد فيلفت، حلوى لذيذة لأطفالك بأقل التكاليف    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    بسبب أزمة نفسية.. فتاة تنهي حياتها بالحبة السامة بأوسيم    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤية نقدية
حافة الكوثر
نشر في الأهرام اليومي يوم 22 - 09 - 2017

على عطا شاعر وصحفى مصري، ولد فى مدينة المنصورة عام 1963، وتخرج فى كلية الإعلام فى جامعة القاهرة سنة 1986، ويعمل الآن محررًا ثقافيًّا فى جريدة الحياة اللندنية، وقد صدرت له ثلاثة دواوين، الأول بعنوان: «على سبيل التمويه» سنة 2001، والثانى بعنوان: «ظهرها إلى الحائط» سنة 2007، والثالث بعنوان: «تمارين لاصطياد فريسة» سنة 2013.
...............................................
وواضح من عناوين الدواوين أنه شاعرٌ مغرمٌ بوقائع القمع الذى تمارسه علينا السلطات التى نحيا فى ظلها أو نحيا فى علاقة معها، ولكن على عطا غيَّر اتجاهه فجأة، وهجر الشِّعر- مؤقتا- إلى الرواية؛ فأصدر روايته «حافة الكوثر». وفى رأيى أنها رواية دالة كل الدلالة على مشاعر هذا الجيل الذى تفتحت عينه أو الذى تفتحت عيناه على الحياة السياسية فى أواخر عهد مبارك وشارك فى الثورة عليه؛ أملا فى زمن جديد يحقق أحلام هذا الشباب فى العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولأنَّ هذا الجيل من الشباب قام بثورته، دون أن يرى ما هو أبعد من التمرد وأوسع مدى من إسقاط النظام؛ فقد عجز عن تصور نظام جديد يسعى إلى تثبيت دعائمه وإرساء قواعده، بعد ثورة 25 يناير التى انتهت نهاية فاجعة؛ حيث إنها سمحت للإخوان المسلمين بالاستيلاء على الحكم، وتأسيس نظام حكم ليس أفضل بكثير أو بقليل من نظام حكم مبارك الذى ثاروا عليه. ولذلك لم يحتمل الشعب نظام الإخوان المسلمين الجديد أكثر من عام، وتحالف الشعب مع الجيش، من أجل إسقاط هذا النظام الإخوانى الذى كان يسعى إلى تحويل مصر إلى دولة دينية. وكانت نتيجة ثورة 30 يونيو فتح أفق جديد لإرساء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، ولكنَّ هذه الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة لم تتحقق إلى اليوم، ولا تزال أحلام الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، أحلامًا تخايل أذهان هذا الجيل الذى شعر بالإحباط الشديد؛ نتيجة فشل الثورة التى أسهم فيها وراهن على نجاحها بدمائه التى أغرقت الأرض، دون فائدة أو دون ثمار حقيقية موجودة على أرض الواقع، وكانت النتيجة هذا الاكتئاب الشديد الذى أصاب أبناء هذا الجيل، والذى أدى بعدد غير قليل منهم إلى المصحات النفسية؛ فسادت بينهم حالة اكتئاب نفسى حادة هى النتيجة الطبيعية للإحباطات التى انتهوا إليها؛ نتيجة فشل ثورتهم، ونتيجة أنهم أسقطوا نظامًا، ولم يكن يعرفون ماذا سوف يستبدلون به، ولذلك تداعت الأحداث التى أصابتهم بألوان الاكتئاب التى دفعت بطل هذه الرواية، وهو واحد من ثوار 25 يناير إلى أن يدخل مصحة للأمراض النفسية ثلاث مرات. ولتعدد مرات دخول المستشفى أو المصحة النفسية أكثر من مرة دلالته فى هذا السياق، فهى تعنى أن بطل الرواية ظل فى كل مرة يحاول أن يتغلب على مرضه ويعاود حياته العادية، مصرًّا على تجاوز اكتئابه، ولكنه فى كل مرة يعجز عن تجاوز مرض الاكتئاب؛ فيعود إلى المصح الذى كان قد خرج منه.
ومن الواضح أن عنوان الرواية، وهو «حافة الكوثر», عنوان لا يخلو من سخرية مُرَّة، ف «حافة الكوثر» فى السياق العادى للغة أو للدلالات العامة لها، فى المتناصات اللغوية ترتبط بالموروث الديني؛ ف «الكوثر» هو نهرٌ من أنهار الجنة، وعد به الله، سبحانه وتعالي، النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- وذلك فى الآية التى تقول: «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ». ولكن هذا هو سياق التناص الدينى الذى تشير إليه كلمة الكوثر، ولكنها على النقيض من ذلك فى السياقات اللغوية التى ترتبط بها الرواية، فهى لا تشير فى شبكة دلالات الرواية إلى عالم النعيم، وإنما تشير إلى عالم الجحيم. والجحيم هو الآخرون الذين يسلبون الأحلام ويجتثون ثمار الأمل من أرض الواقع. ولذلك فعنوان الرواية بدل أن يشير إلى حافة النعيم التى كان يتطلع إليها شباب 25 يناير، أصبح يشير إلى حافة الجحيم التى تحول إليها هذا الشباب الذى لم يعرف غرف السجون فحسب، وإنما عرف ردهات مصحات العلاج النفسى التى تحولت إلى ملاذ لهذا الشباب من قسوة واقع لا يحتمل أو التى أصبحت هى الواقع البديل لعالم لا يطيق الشباب العيش فيه أو لا يحتمل مصاعب الحياة فيه.
هكذا تنبئ السخرية التى يتضمنها العنوان إلى الاقتراب من جحيم التوحد والعجز عن التوافق الاجتماعى والفشل فى الحياة السوية مع الآخرين. ولكن من هم الآخرون؟، إنهم فى أغلب الظن ممثلو السلطة القمعية فى المجتمع، كما هم بالقدر نفسه جماعات المقموعين من هذه السلطة. أعنى هؤلاء الذين يخاطبهم البطل عبر أدوات الاتصال الحديثة التى أصبحت تربط بين أبناء هذا الجيل، وهى الكمبيوتر والفيس بوك. ومن المفارقات الدالة أن هذه الأدوات الاتصالية الحديثة التى استخدمت ببراعة فى إنجاح ثورة 25 يناير هى نفسها التى تستخدم فى الرواية للتعبير عن الإحباطات وحالات الاكتئاب التى تركها فشل ثورة 25 يناير، أو انحرافها عن المسار، والتى أصابت هذا الجيل بسوء الظن وجعلته يتصور أن حركة تمرد ليست سوى حركة «مفقوسة»؛ ولذلك لم يوقع عليها البطل لأن أعضاء تمرد «كانوا يوزعون استماراتهم التى تطالب برحيل رئيس الجمهورية، فى أماكن تجمع الناس بحرية تامة».
ولكن هذه الكلمات التى تشكك- نوعا ما- فى حركة تمرد لا تصل إلى النهاية، فسرعان ما نسمع تلاوة البطل فى المصحف للآية التى تقول: «قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». وليس فى تضمين هذه الآية إلا ما يشير إلى نوع من الشك الذى أصاب البطل فى أحوال اكتئابه. وهو لازمة من لوازم الحال المعرفية التى سيطرت عليه وأصابته بالاكتئاب. أعنى المرض الذى تدور حوله الرواية فى تقنية خاصة بها، أو فى تقنية لا أتردد فى وصفها بأنها تقنية ما بعد حداثية، فلا يقين فى جُملها. والرواية نفسها لا تنطوى على سردية متماسكة أو على تناول تاريخى متصل أو متسق، وإنما هى شذرات سردية تنبع من الوعى واللا وعى على السواء. وخطابات متبادلة بين عدد قليل من الأصدقاء على الفيس بوك والنت، وهى خطابات يدور أغلبها حول اكتئاب البطل وأحواله النفسية، وحول ملاحظاته على الحياة التى يعيشها فى المصح النفسى أو حتى على حياته خارج المصح، أعنى الحياة التى سرعان ما تعود به إلى المصح، وذلك فى وقائع سردية قصيرة أشبه بالشذرات التى تتكرر دون روابط منطقية، فالشيء المنطقى الوحيد الذى نعرفه هو أن البطل شاب صحفى يعمل محررًا فى جريدة غير مصرية، وأنه يقوم بتحرير العديد من المقالات التى يرى أنَّ الأولى من تحريرها أن يكتب بنفسه عما يعبر عن أزمته المعاصرة، وعما يصله بجيل السبعينيات على وجه التحديد، ولذلك لا يتردد البطل فى الإشارة إلى الشاعر السبعينى حلمى سالم فى ديوانه «سراب التريكو»؛ حيث نقرأ:
«حزن خفيف/ على قصة الشعر/ وحنين إلى أن يراني/ من لم يكن يراني/ وأنا على أبواب المواساة».
ولا أدرى لماذا قرأت الكلمة الأخيرة المواساة «المأساة»؟! هل هو نوع من التوقع الشعورى الذى دفعنى إلى تأويل ما رأته عيناى فى رواية على عطا، أم إن معنى «المواساة» فى التناص أو التضمين المقصود إنما يؤدى إلى معنى «المأساة» التى يواجهها البطل الذى يحدثنا عن أنه «يكابد وحده الاضطراب النفسى والرغبة الملتبسة والملحة فى كتابة ما جرى لى وللثورة». هذه الكلمات هى جزء من رسالة وردته من صديقه «الطاهر يعقوب» عبر إيميله الشخصي، وذلك فى السياق الذى يتحدث فيه الكاتب عن ذلك الحال النفسى الذى هو «مظلم حالك يقبض بخناقنا، دون أن نحيط به، شيءٌ لا ملامح له، لا يكف عن القعود بنا، شيءٌ أشبه أحيانا بتخلف سحيق ذى قناع يسارى يموه هويته الحقيقية، وربما كان العزاء فيما يقدمه قول أمل: لولا هذا الجدار، ما عرفنا قيمة الضوء الطليق».
وما دمنا نتحدث عن التناص وأشكال التضمين المختلفة، فمن المهم أن نشير إلى تكرار أغنية سعاد حسنى التى تقول: «بانو بانو على أصلكوا بانو»، وهو تضمين لا تكاد تخلو منه الرواية فى صفحاتها التى لا تجاوز 155 صفحة، وهو تكرار لا نعرف من سياقاته المختلفة، من الذى يتوجه إليه الخطاب، هل هم الذين يمثلون السلطة بأطرافها المختلفة؟ أم هم المثقفون الذين شاركوا السلطة فى الانحراف بثورة 25 يناير أو صنع ما رآه البطل أكذوبة 30 يونيو؟. على أى حال، فنحن إزاء بطل إشكالى يعانى الاكتئاب. والاكتئاب حالة شديدة من الاضطراب، ولكنه- فيما يقول مدير المصحة فى برنامج إذاعي- لا يعنى الحزن الظاهر بالضرورة؛ فقد تجد صاحبك يشاركك الضحك والمرح، وفى اليوم التالى يَرِدك نبأ يقول: إن الاكتئاب دفعه إلى الموت منتحرًا؛ ولذلك يرقب البطل أقرانه الذين يترددون على الكوثر، ومنهم ذلك الشاعر الذى يرجو له البطل مغادرة الاضطراب النفسى إلى الأبد. وطبيعى أن ينبثق السؤال: هل الاكتئاب مرض موروث أم مكتسب؟ ويبدو أن الإجابة التى تطرحها الرواية هى أن الاكتئاب حالة نفسية يقع فيها الفرد عندما تسرق أحلامه أو تضيع منه على واقع صخر الحياة الواقعية الخشنة، أو أن تنسد أمامه سبل المستقبل بلا منفذ يوصله إلى خلاص؛ خصوصًا من ثائر رأى أن الجميع اتفقوا على وأد الثورة والقضاء عليها. وهذا هو ما يكتبه له صديقه «الطاهر يعقوب» فى الثانى والعشرين من مايو 2015 على صفحة الفيس بوك قائلا: «كنت قريبًا من أصدقاء حدث لهم انهيار نفسى فى تلك الأوقات، فأدركت أن المسألة تبدأ من وجود مشكلة ما لا يستطيع الإنسان عادة البوح بها، يصاحب ذلك نقص يمكن أن تصفه بالاضطراب الحاد فى ساعات النوم. مع إعراض واضح عن الطعام. وفى هذه الأثناء تتعقد المشكلة حتى يبدو ألا حل لها. ثم لا يستطيع- إن جاز لى تسمية ذلك بالعقل الواعي- تحمل كل تلك الضغوط المعاشة والمتشعبة من المشكلة الأصل. فيسلم القياد لمنطقة اللا وعى فى أعماقنا. وما يحاول الطبيب النفسى عادة فى تصورى هو مساعدة المريض على البوح بالمشكلة المعنية. لكن المسألة أكثر تعقيدا. إذ يبنى المريض حيطان دفاعية للحيلولة، دون البوح ويبدأ يراوغ. يستعين الدكتور بواسطة تلك الحبوب الحمراء أو المهدئات القوية وغيرها. ما إن يبوح المريض حتى تبدأ المشكلة فى الزوال... إلا أن البوح يحتاج إلى درجة عالية من الأمان». ولكن كيف ومتى يتحقق هذا الأمان. وربما إلى شيء من هذا قصد مدير المصحة أن يرجع إلى عنصر واحد، فيخاطب البطل المريض قائلا: «يا بنى الاكتئاب شديد الانتشار وصعب ربطه بعنصر مفرط، تفاعل تركيب سيكولوجى مع الظروف... كل الناس مستعدة للإصابة بالاكتئاب... نسبة الكآبة تقدر ب 10% على أقل تقدير فى أى مجتمع بشري». ولكن هذه النسبة تختلف بالتأكيد فى المجتمعات المقموعة التى تسيطر عليها جماعات دينية أو جماعات تسلط عسكرى لا تقل عنه قسوة أو قمعا.
ولكن يبقى السؤال كيف تذهب الكآبة من مريض الاكتئاب الذى لم يصبه الاكتئاب أصلا إلا بسبب رهافة مشاعره. إن البطل الذى هو نموذج للمكتئب أو الذى هو نموذج للشاب الذى اندفع إلى الإيمان بكل جوارحه بانتصار ثورة 25 يناير، ولكنه أصيب بما قاده إلى الإحباط، بسبب فشلها الرهيب، الذى لن يمكنه أن يفارقه، وكل ما حوله يدفعه إليه: التعصب الدينى المصحوب بالفساد، اللصوص الذين يعتدون على الأراضى ويسرقونها فى غيبة من الحكومة أو الذين يطلق عليهم «مافيا الأراضي»، التخبط السياسى الذى يجعل من الأصدقاء أعداء، والبعد الاجتماعى الذى يرتبط بحدة الفارق المتسع بين الطبقات؛ حيث يوجد من يجدون ما ينفقون فى مقابل الذين لا يجدون ما ينفقون. سعاد سليمان التى تكتب على الفيس بوك: «أبويا كان شيال وأنا بنت العامل الشقيان وأفتخر». وما كتبته كان ردا على الوزير الذى قال إنَّ سلك النيابة والقضاء لا ينبغى أن ينتمى إليه الفقراء، وكان لديها قصة لا ينسى بطل الرواية أن يذكرها لنا، قصة تتحدث عن الجنس الذى كان يمارسه أب مع زوجته على مسمع من أولادهما المكومين تحت السرير فى غرفة ضيقة تضم حوالى عشرة أنفس. ابنة الشاعر الكبير الذى يذكر لنا الشاعر أنها تنام على أرصفة وسط البلد... والتى تكتب قصائد مجنونة تؤكد الحاجة إلى علاجها من الجنون. ولكن كل هذا لا يكفي، فهناك القذارة التى تحيط بكل شيء، والتى تتراكم فى صورة تلال، حول المنازل فتخنق الأنفس. ولكى يصل البطل إلى منزله، فعليه أن يعبر «بين جبال من مخلفات البناء وتلال القمامة» فيقول لنفسه دائما: «سد أنفك وأسرع الخطي»، ولكنه لا ينسى أن يلقى نظرة على «جبل ضخم من التراب والقمامة، سرقة بالإكراه... بيع علنى للمخدرات... وكلام عن تجارة فى السلاح والآثار، هذا هو العالم الذى تتخلله القذارة والفساد من كل وجه ويصفه البطل؛ وهو فى الوقت نفسه العالم الذى يخرج منه البطل لكى يعود إلى الكوثر، والكوثر هو العالم الذى لا نجاة منه إلا بالعودة إلى العمل. ولكن العمل نفسه لا يقضى على الاكتئاب فى كل الأحوال. ويجد البطل الحل للهروب من عوالم القبح والفساد والخيانة فى الكتابة التى ينصحه بها صديقه «الطاهر يعقوب» التى يراها الصديق مهربًا، أو مواجهة للنفس تعينها على مواجهة الواقع الخارجي؛ فالطاهر يعقوب يكتب له رسالة تشجعه على مواصلة الكتابة، ليس باعتبارها سبيلا للخروج من حالة الاكتئاب كما نصحه هو، فى وقت سابق، بل لأنه بالفعل يريد أن يكتب عن نفسه التى سئمت طحنها فى تحرير نصوص الآخرين لسنوات طويلة.
هكذا تدفعه الكتابة إلى أن يرى من بعيد مأساة إحباطه فى عالم مختل، إلى أبعد حد، ولا سبيل أمامه سوى الانتحار أو الكتابة بوصفها موقفًا رافضا للعدم أو بوصفها- كما قالت إيزابيل اللندي- : «خلاصا للذات عبر الكتابة». هذا الخلاص هو الذى يدفع الكاتب إلى هذه الرواية، خالقا فيها هذه الشخصية الفريدة التى تثير الأسى فينا ونرقبها فى تعاطف؛ لأننا نرى فيها مجلى من مجالى وجودنا السياسى والاجتماعى والوجودي. صحيح أننا لم ندخل إلى الكوثر بعد، ولكن لا تزال فينا رغبة الإصلاح التى تدفعنا إلى التمرد على كل ما تشير إليه الرواية من فساد وقمع يصيبان جيلا حسنت نواياه؛ فقرر الخروج والتضحية بحياته من أجل أن يوفر لبلده عيشًا كريمًا وحرية حقيقية وعدالة اجتماعية لا تطحن المواطن ولا تميز مواطنًا على مواطن، ولكنه بدل أن يدخل نعيم هذه الحياة الجديدة أصبح على حافة مصح للأمراض النفسية يسميه البطل «الكوثر»، ولكنه الجحيم فى واقع الأمر، ولكن القارئ يدرك فى النهاية أن الخلاص من هذا الجحيم، ومن ثَمَّ الخلاص من هذا الاكتئاب الصعب هو الكتابة، ولكنها بمنطق على عطا كتابة البوح، والبوح فى سياقات هذه الرواية هو الكلمة المفتاح؛ فالبوح فيما يراه الكاتب هو الحل المؤقت؛ خصوصًا عندما نكتشف صعوبة هذا البوح وامتناعه؛ إذ إن المردود المتوقع قد يبدو مهددًا بوجودنا المعنوي، وربما المادى كذلك. ويقوى مثل هذا الاحتمال لحظة أن ندرك أننا نستند عادة على نسيج واهن من الصداقات، فى عالم تحكمه المادة أو المصلحة، لا المبادئ ولا الأخلاق. وقد تشكل الكتابة هنا حلا، لكن الكتابة فى حد ذاتها عملية شاقة وعسيرة، ومسئولية قد تُودِى بفاعلها إلى ما هو أبشع من الكوثر وحافته على السواء. وليس ذلك لأن الكتابة- كما يقول إبراهيم أصلان- كتابة بالجسد كله، وأنها تستلزم إقامة أكثر من ركيزة للتوازن فى عالم لا يني، يتأرجح بحدة أحيانا. ولكن هذا التأرجح- فيما أضيف- كالبندول الذى يمكن أن يتحرك ما بين حافة الكوثر أو حافة المعتقل. فاختر لنفسك- أيها القارئ اللبيب- ما تريد. هذا هو درس رواية على عطا التى تقول لنا خلاصة تجربة أبناء جيله من ثوار 25 يناير.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.