فتش يوسف العاصى فى تلافيف عقله، أخرج كل ذكرياته من مكامنها، راح يقلب فيها، ذاكرته تخونه أحيانا، تنتظم فى خيانته منذ سنوات بعيدة، سقط على رأسه طائرا من سيارته حين انقلبت به فى الطريق الزراعي، كان عائدا إلى الإسكندرية، الدنيا ليل حالك، وأمطار خفيفة تزخها السماء على مهل فى ليلة نصف شتوية، انهى عمله بالقاهرة، وقرر العودة متجاهلا كل دعوات الأصدقاء والأقارب المتذرعة : النهار له عينان. رد: لا أطيق القاهرة وصخبها، وأريد أن أصحو على مشهد البحر كعادتي.فتح عينيه كان راقدا على سرير فرشه أبيض، وهو يكره الملايات البيضاء، قدمه اليمنى معلقة على حامل، ويده اليسرى فى جبيرة، ورأسة تدق بعنف وملفوفة فى كومة من الشاش، أراد أن يتحرك، عجز ، سكت ، أغمض عينيه، جاءت ممرضة متجهمة: أنت صحيت..بقى لك ثلاثة أيام فى غيبوبة. نظر حوله وجد مجموعة من الآسرة ممد عليها وجوه لا يعرفها بين النوم واليقظة، بعضهم مرشوق فى جسده أنابيب ومحاليل. لم يستجمع نفسه وسأل متوترا: أين أنا؟ قالت دون اهتمام: فى العناية المركزة بمستشفى كفر الزيات العام. وخرجت.. حاول أن يتذكر شيئا.. أخر شئ صوت فرقعة العجلة الأمامية وانفكاك السيارة من سيطرته. قال له الطبيب: أحمد الله..لم يحدث كسر فى الجمجمة..لكن مركز الذاكرة تأثر، لم تفقد ذاكرتك،لكن تذكر ما يحدث ليس سهلا واسترجاع الذكريات أصعب وسوف تزداد مع السن. وفعلا باتت استعادة ذكرياته القديمة مع أختيه كأنه يستخرج من أرض قاحلة نباتات مزهرة، لم تغوص كلها فى المجهول، بعضها ظل متوقدا وبعضها انطفأ ولم يبق منها إلا أخيلة غامضة. ماذا حدث فمشت أختاه فى درب الجفاء والمقاطعة إلى منتهاه؟ كان يوسف يعيش وحيدا، طلق زوجته عنايات بعد عامين من المشاحنات والغضب والكأبة، كانا مثل كائنين من كوكبين مختلفين شاءت الأقدار أن تجمعهما فى قارب واحد، غرباء فى اللغة والأحلام والعادات والثقافة، دفعته أمه إليها دفعا، لم تكن تقصدها هى بالذات، فيوسف جرت به الأيام وقارب على الأربعين، لا زوجة ولا عيل، وقالت له أمه: يعنى تعيش وحدك.. أختك أمانى الكبيرة ابنها تخرج من كلية الهندسة، وأختك سناء الأصغر منك بعشر سنين ابنها دخل المدرسة. زهق من الكلام والرفض، تزوج فى أول فرصة، وطلق فى ثانى عام..وعاد وحيدا مصرا أن لا يعود إلى عالم المتزوجين مرة ثانية. مرضت أمه بعد موت أبيه، واحتجزتها أخته أمانى فى مستشفى حكومى هى مديرتها، لكن السر الإلهى لم يدم سوى أسبوع وعاد إلى خالقه، تنازل عن نصيبه فى التركة لأختيه، لم يحتفظ من كشمحية الذهب إلا بساعة هدية كان اشتراها لأمه فى عيد ميلادها الأخير، وعاش فى شقة العائلة وحيدا، لكنه لاحظ فتور اختيه من ناحيته من اليوم التالى لموت أمه. يوسف إنسان خاص جدا، كل شئ فى حياته يعمل مثل ساعة سويسرية، الأكل فى ميعاد محدد بالساعة والثانية، نظام البيت صارم من أول باب الشقة إلى منشر الغسيل فى البلكونة، الكلمات بحساب وجدية، لم يضبطه أصحابه القليلون وهو يهزر أو يسخر أو يطلق نكتة بذيئة، حتى زيارته لبعض أقاربه منتظمة ولها ترتيبات لا تتغير، علاقات العمل منضبطة فابتعد عنه زملاؤه فى معمل التحاليل الذى يشتغل به عقب عودته من الخليج..بدا يوسف للقريبين منه إنسانا آليا لا ينقصه سوى برامج تشغيل جديدة. لكن يوسف كان يتألم من الداخل، يكاد عقله الحديدى ينفجر ويتفتت من كثرة ضغط التساؤلات عليه: لماذا ابتعدت عنه اختاه؟ خمسة عشر عاما من الجفاء الخالص، ولا واحدة منهما دقت عليه باب الشقة، ولو من باب الحنين إلى سنوات عاشت فيها، ولا فكرت أن تسأل عنه فى التليفون، هما لا يسكنان فى مدينة أخرى ، بل على بعد مئات الأمتار، الكبرى أمانى ظلت تمر أمام البيت إلى المستشفى العام الكائنة على ناصية شارعه سنوات، كان يتابعها من خلف الشيش ممنيا نفسه أن تنظر إلى شقته وهى تنتظر بسيارتها فى إشارة المرور القريبة، لم تفعل أبدا. وحين أحيلت إلى المعاش وسافرت أبنتها نيفين إلى الولاياتالمتحدة للحصول على الدكتوراه من جامعة نيويورك، لتمضى على درب أخيها الذى نال الدكتوراه فى الهندسة النووية، تفرغت هى لنشاطها الاجتماعي، قعدة نادى سبورتنج فى الصباح، ولقاءات الأنورويل والروتارى والجمعيات الخيرية فى المساء..مع أن صلة الرحم صدقة. وانشغلت سناء بزواج ابنتها من رجل أعمال من عائلة سكندرية عريقة، ولم تدعوه إلى فرحها، وحين زارته الابنة قبل الفرح بثلاثة أيام حاملة معها دعوه باسمه قائلا: طبعا سوف تأتى يا «خالو». سألها بدوره: على أى ترابيزة سوف أجلس ومع من؟، لماذا لم تدعونى أمك أو أبوك؟، إذا كانوا لا يتحدثون معى فكيف أحضر؟ نغزته حدة نظرات عينيها الحزينة فى قلبه، فقال: بعد العودة من شهر العسل سأزورك فى بيتك وأتعرف على عريسك. وكلما هل شهر رمضان يوغل يوسف فى أحزانه من أختيه، ويحس أنه شجرة عاقر بلا جذور، لا أهل ولا عائلة خاصة، إلا خاله أحمد، وخاله فى الثمانين من عمره رجل وحيد لم يتزوج قط، واستبدل بالناس كتبا بالألاف فى مكتبته، يتحدث يوسف معه تليفونيا مرتين فى الأسبوع، فربما يموت دون أن يدرى به أحد. وفِى الأعياد يؤلمه حنينه إلى أختيه.. ينزلق إلى كهف أسود داخل نفسه..ينفرد به الاكتئاب ناشبا أنيابه فى روحه، فينقطع عن الناس ولا يخرج من البيت، يتجنب الناس والعائلات والأهل والأطفال وبهجة اللمة التى تنطق من عيونهم وملامحهم بامتلاك الدنيا وما فيها. ومع نهايات أيام العيد تخف حدة الوجع، وتعود إليه مشاعره العادية رويدا رويدا، اللمة تفرقت ورجعت الناس فرادى فى بيوتهم. ثقل على قلبه فراق أختيه، وقرر أن يبادر بالوصال، لكن كيف؟، هل يطرق أبواب بيتيهما ويعترف لهما بأنهما أوحشتاه، وأنه يعتذر لو كان قد بدر منه ما يسئ إليهما دون أن يقصد..هو لا يتذكر أى إساءة لهما استبعد الفكرة: ولماذا لم أوحشهما وأنا أخيهما الوحيد؟ رفع سماعة التليفون، طلب خاله فى غير تلك الأوقات المعتادة، سأله أن يفرد جسور الوصل بينه وبين أختيه. سأله خاله: ماذا افعل بالضبط؟ رد: أسألهما عن سبب هذا الجفاء. بعد يومين رِن تليفونه المحمول، سأل يوسف ملهوفا: ماذا كان الرد؟ أجاب الخال: لاشئ محدد، هما مشغولتان فى حياتهما. قال يوسف: الواحد ممكن يموت وهما لا تعرفان. قال الخال: إنَّا قلت لهما ذلك. - وبماذا أجابتا؟ -أمانى قالت إنها كل يومين ثلاثة تمر من أمام البيت ولما تلاقى الغسيل منشور تطمئن أنك مازلت حيّا.