خيط رفيع يفصل بين الخطاب السياسى الدعائى الأيديولوجى وبين الخطاب الذى يعتمد على قراءة حقائق الواقع، وما يمكن أن تسمح به أو لا تسمح! وقد جاء خطاب الرئيس الأمريكى ترامب أمام الأممالمتحدة من النوع الأول، الذى طالما رفضه خبراء الاستراتيجيا هنا فى مصر وهناك فى الغرب، وكانوا - وربما ما زالوا - عندما يصدر مثل هذا الخطاب من أحد هنا أو فى دول معارضة للرأسمالية المتوحشة، يصفونه بأنه نوع متدن من أنواع الديماجوجية الشعبوية! وبصرف النظر عن أن ترامب لم يشر إلى ما تعانيه مصر من الإرهاب، ولا إلى جهدها فى مقاومته ولا إلى دورها أيضا فى استيعاب ألوف القادمين من سوريا ومن العراق ومن ليبيا، وقبلهم ألوف من السودان، إلا أنه لم يتردد عن الإشادة بالدولة الصهيونية واعتبار أن أى تهديد لها هو عمل ضد الإنسانية! لقد تحدث ترامب طويلا عن فشل الاشتراكية وعن خطر الشيوعية، وتحدث عما سماه الأصولية الإسلامية الإرهابية، وعن النظم غير الديمقراطية، وتناسى المظاهر التى تشير إلى وجود جذور قوية للأصولية المسيحية الصهيونية فى بلاده، وجذور قوية للعنصرية العرقية والدينية والطائفية، وكيف أن لهذه الجذور وجودا علنيا حركيا واسعا يتمثل فى أن الموقف الداعم المنحاز انحيازا مطلقا للدولة الصهيونية لا يرتكز فقط على المصالح المشتركة ولا على التحالفات القوية، بل يرتكز أيضا على ما يمكن أن نسميه التزاما توراتيا لدى تلك الأصولية المسيحية الصهيونية، التى لها خطابها الدينى ومنه أن المسيحى الذى لا يؤمن بنبوءات التوراة وإعادة بناء الهيكل والمذابح، التى ستتم ضد الأغيار فى سبيل ذلك ليس مسيحيا مخلصا، وإذا كان ثمة اختيار عند المسيحى الأصولى بين الإيمان بتلك النبوءات وحتمية تحققها، وبين الاعتقاد فى حقوق الإنسان ومواثيق احترامها ورفض الدماء أيا كان السبب، فإن الاختيار يجب أن يكون لما هو توراتى وليس لما هو إنساني! ثم إن ترامب نفسه ومنذ عدة أسابيع مضت شاهد ما عانته بلاده فى انفجار عنصرى ضد السود فى إحدى الولايات بعد قصة التمثال إياه.. ووصل العنف لدرجة اضطرت ترامب كرئيس للولايات المتحدة أن يخرج ليتكلم، وهناك كثيرون اعتبروا كلامه فى ذلك الوقت غير موفق، لأنه لم يدن أولئك العنصريين إدانة كاملة! ثم إنه تحدث عن دول تحكمها نظم اعتبرها هو معادية لشعوبها، ومنها إيران وفنزويلا وكوبا، ولم يتورع عن أن يقدم تقييما أيديولوجيا فيه من الأحكام القيمية المطلقة أكثر مما فيه من تحليل علمى أو حتى منطقي، ولو بشكل عابر، وهو يغفل أن الشعب الكوبى صمد لأكثر من نصف قرن أمام الحصار الأمريكى البشع، وقدم الشعب الكوبى نموذجا للاعتماد على الذات، وتحقيق تقدم هائل فى بعض المجالات كالعلاج الطبى والدواء وأيضا فى الاكتفاء الغذائي، ولم تركع كوبا للولايات المتحدة.. ثم إنه يغفل أيضا أن الاشتراكية والشيوعية لم تحولا دون أن تتقدم الصين وفيتنام، بل إن الصين وضعت نفسها فى مقدمة الصف الأول اقتصاديا وتقنيا، وأصبحت رقما صحيحا وصعبا أمام العالم الرأسمالى كله، بل وأكثر من ذلك فإن الوجه الآخر لقراءة ما يجرى فى كوريا الشمالية هو أنها- بتركيبتها الأيديولوجية والسياسية التى يرفضها ترامب- تمثل حالة متقدمة فى تقنيات صناعة الأسلحة الاستراتيجية، وهى تقنيات تنم عن تقدم علمى بدرجة أو أخرى! ثم إن ترامب- ربما بحكم تكوينه الثقافى الضعيف - لم ولن يلتفت إلى التاريخ الطويل لنضالات إنسانية هائلة فى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فى حقب الاستعمار الرأسمالى القديم، الذى اتسمت بعض دوله الاستعمارية بعنصرية رهيبة بغيضة عرفتها أنجولا والكونغو وجنوب إفريقيا، وفى حقب الاستعمار الإمبريالى الجديد، ولن يلتفت أيضا إلى أن العالم - خاصة أوروبا وبلاده - دفعوا أثمانا فادحة اقتصاديا، وقتل أكثر من سبعين مليونا من البشر فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد يتضاعف الرقم، إذا أضفنا ما حدث فى الحروب الجزئية التى اشتعلت فى منطقتنا وفى وسط آسيا وشرقها وفى إفريقيا جنوب الصحراء وفى أمريكا اللاتينية، وهى حروب صغيرة قد تجل عن الحصر، وفيها حروب تسببت فيها الولاياتالمتحدة ودمرت أوطانا بأكملها وما حالة العراق ببعيدة، كنموذج لقرارات وتوجهات إمبريالية أمريكية تبين أن كل ما حاولت أن تستند إليه من قبيل الأسلحة النووية والكيماوية وغيرها كان زائفا! لقد جاء خطاب ترامب، وكأنه إعلان حرب على عقائد سياسية، وأخرى دينية، وعلى دول ومجتمعات وجماعات، فيما بلاده تعانى كوارث طبيعية مدمرة، من المؤكد أن المسيرة الرأسمالية بتقنياتها كانت سببا من أسباب تلك الكوارث، حيث كان ارتفاع درجة حرارة الكوكب نتيجة الأنشطة الصناعية، وربما أيضا الأنشطة الفضائية من ورائها.. وهى أنشطة ارتبطت بالنمو الرأسمالي، الذى مازالت دوله ترفض الالتزام بالقواعد الحاكمة لعدم تفاقم الظاهرة! وتعانى كذلك من أزمات داخلية تمس صميم التماسك الاجتماعى الأمريكي. مع هذا كله، يبقى السؤال الجوهري، الذى يخصنا نحن كدولة تخوض حربا ضروسا على خمس جبهات، شمالا وشرقا وغربا وجنوبا وفى العمق، وتخوض كفاحا مضنيا فى كل جبهات الاقتصاد والخدمات والإنتاج والبنى الأساسية والتكوين الثقافى والمسلكى لشعبها: ماذا نفعل أمام هذا الانحياز الأمريكى المطلق للدولة الصهيونية وللنهج الرأسمالى وآلياته، وما تطلقه الولاياتالمتحدة من تهديدات لكل من يتعامل أو يتعاون مع دولة من الدول التى خصها ترامب بالهجوم فى خطابه؟ هل سنقطع علاقاتنا ونشارك فى الهجوم على تلك الدول، كفنزويلا وكوبا وغيرهما، أم سنستطيع اتخاذ مواقف متوازنة أقرب إلى الاستقلال وتحقيق مصالحنا أولا وقبل كل شيء، مثلما هى الولاياتالمتحدة التى تقدم مصالحها أولا وقبل وبعد كل شيء؟! أظن أن ما كتب فى هذه المساحة الأسبوع الفائت حول التوجه شرقا واستعادة الدور هو جزء من الإجابة التى يجب أن نبذل من أجلها كل جهد طوال الوقت. لمزيد من مقالات أحمد الجمال