لم يكن ذلك الرأس من عام 2011 كأى رأس سنة آخر على جنوب السودان.. طوابير المحتفلين باستفتاء الاستقلال تملأ العاصمة جوبا، وكاميرات العالم ترصد فرحة الوجوه السمراء المستبشرة وأهازيج النصر والحرية.. وشعار الاستقلال (القبضة السوداء المغلقة) يعلو واجهات المنازل والمحال.. بعد 6 أشهر كان انفصال جنوب السودان رسميا عن السودان.. ولم يكد يمر عام وبضعة أشهر حتى اندلع صراع السلطة بين الرئيس الحالى سلفاكير ميارديت وقبيلته الدينكا، وبين نائبه ريك مشار وقبيلته النوير، ليرزح الشعب الذى اختار مصيره تحت وطأة واحدة من أعنف الحروب الأهلية فى العالم، بأكثر من 200 ألف قتيل ومئات الآلاف من الجرحى و2 مليون لاجئ ومركز فى ذيل قائمة الدول الهشة.. لو علمت طوابير البهجة ما كان ينتظرها ما وقفت ولا اصطفت ولا نادت بحرية ولا استقلال. فى صيف يونيو عام 2007، وعقب 5 أيام من المعارك الطاحنة فى قطاع غزة مع حركة فتح، فرضت حركة حماس بذراعها المسلحة السيطرة على القطاع ومؤسساته، وأعلنت من جانب واحد، فصل غزة عن نطاق السلطة الوطنية الفلسطينية، ومضت تحكم بقبضة راديكالية متشددة إخوانية الدعم والوصاية والهوى، انقسام أهدى إسرائيل ذريعة لعدوان آثم على غزة ثلاث مرات فى أعوام 2008 و2012و2014 وحجة كبرى جاهزة فى وجه أى مفاوضات حول الدولة الفلسطينية، وأسقط مئات القتلى والجرحى، وانعزل القطاع، وانفض المانحون، وانشغل الممولون، وما عاد أمام الحركة سوى مراجعة شاملة، بقرارات تاريخية، بدأت بحل ارتباطها بجماعة الإخوان، وانتهت بعودة ارتباطها بالسلطة الوطنية الفلسطينية، وتسليم إدارة القطاع لحكومة الوفاق، بعد ثمن فادح بين الانفصال والاتصال. نسير وكأننا لا نعلم ما يراد بنا، وكأننا نساق دون إرادة إلى مصير محتوم . الحقيقة أن تجارب الانفصال المحمولة فوق أعناق حالمة بالاستقلال لم تجلب معها سوى الدماء والحروب والتشرذم.. وفى ضوء الثابت فى دراسات الغرب وأبحاثهم.. فإننا نمضى بخطى ثابتة وفق مخطط استراتيجى مدبر سلفا لمستقبل الشرق الأوسط.. فى مراكز الأبحاث ومطابخ صنع القرار الأمريكية، يسعى لتقسيم دول المنطقة إلى دويلات على أساس عرقى (أكراد) ومذهبى (سنة وشيعة).. وفى نظريات أخرى يتبنى مسار التجزئة داخل الدولة، وهو ما حدث نصا فى العراق، التى سن دستورها لعام 2005 حكما فيدراليا اتحاديا أتاح لإقليم كردستان صلاحيات الحكم الذاتي.. إقليم كردستان (4٫69 مليون نسمة) له عرقيته الممتدة عبر سورياوتركياوإيران، وتاريخه ولغته ودستوره (عام 2008) وجيشه «البشمركة».. خاض معارك السنوات الأخيرة ضد داعش إلى جانب القوات العراقية حتى أنهكت حكومته الأزمات، أجهز تراجع أسعار النفط على قوته الاقتصادية، وما إن بدأت الحرب ضد الإرهاب تضع أوزارها، حتى سارع الإقليم بالإعلان عن استفتاء استقلاله، بعد وصول أزمته مع الحكومة ببغداد إلى طريق مسدود. إسرائيل سارعت بمباركة الدولة الكردية الوليدة.. قبل حتى الاستفتاء حول ولادتها.. تركيا (بها ما بين 12 الى 15 مليون كردى) اعتبرت استقلال كردستان مسألة أمن قومي، إيران (6 ملايين كردى) لوحت مبكرا بغلق حدودها مع الدولة المفترضة، وأمريكا رفضت وتركت الباب مفتوحا لما بعد الحرب على داعش، أما بغداد فهددت ضمنا بالتدخل العسكرى حال استقلال الأكراد.. كركوك.. قلب الأزمة بين بغداد وأربيل، ثانى مدن العراق انتاجا للنفط، تقع ضمن المناطق المتنازع عليها بين الحكومة والإقليم، وهى بؤرة الصراع الذى تحمله السنوات المقبلة حال استقلال كردستان، هكذا يقول الاستفتاء، سيرتفع العلم الكردى فوق مراكز الانتخاب بكركوك وهو ما لا تقبله بغداد، فصل جديد من المعارك يهدد العراق إذا ما خرج الاستفتاء بنعم وشرع الأكراد فى تنفيذه على الأرض، مالم تتحل أطرافه بالحكمة الكافية لتجنبه. وتظل الحاجة إلى موقف عربى واضح محدد، يرفض أى دعوة للتقسيم ويلوح بعزلتها مبكرا، إذ أن النزاع على الغنائم هو ما يلى الحروب، والأيام المقبلة قد تأتى حبلى بمزيد من دعوات الاستقلال بمناطق الصراع.. مالم يتم وأدها فى مهدها. لمزيد من مقالات أحمد هوارى