لا تلوموا بائع السندويتشات الذى تحول إلى خبير سياسى واستراتيجى يتحدث إلى الفضائيات المصرية من داخل مطعمه الصغير فى حى بروكلين بنيويورك، ولكن لوموا من «انضحك» عليه و«خدع» شعبا بكامله وأقنعنا بأنه متخصص فى الشئون الأمريكية والدولية لمجرد أنه «فاهم» و«متابع» و«جاهز» و«بيعرف يتكلم» ولديه القدرة على استخدام «سكايب» فى أى وقت ومن أى مكان، فهذه هى الشروط الأساسية الواجب توافرها للمتحدثين عبر هذه الفضائيات التى لم يعد فيها مكان للضيف المتخصص أو الحكيم أو العاقل، بقدر ما تهتم بالضيف «الحراق» «الملهلب» القادر على لفت الأنظار و«تسخين الجو» بغض النظر عن هويته أو مهنته أو صحة ومصداقية ما يقوله! لا تلوموا صحيفة «نيويورك تايمز» على خبطتها الصحفية التى يجب أن نعترف بأنها «ضربة معلم» تلقاها الإعلام المصرى كله كالصفعة المدوية من مؤسسة إعلامية أمريكية تنتظر نصف غلطة او حتى ربع غلطة من صحفنا وقنواتنا وتتابعنا دقيقة بدقيقة وكلمة بكلمة، بعكس ما نتخيله ونروج له دائما من أن إعلامنا «محلي» ولا يهتم به أحد ولا يشاهده أحد فى الخارج! بصراحة «لعبة حلوة»، وعلينا أن نصفق للعبة الحلوة، كما نصفق وننحنى ونرفع القبعة لفريق ألحق بنا هزيمة مستحقة على ملعبنا! الغلطة غلطتنا .. والفضيحة فضيحتنا.. ولو كنت مكان قنواتنا الفضائية التى استضافت بائع سندويتشات البيض «المنوفي» لاعتذرت علنا للمشاهدين، مع ملاحظة أن كلمة «منوفي» هنا صفة مدح وإعجاب، لا إساءة وسخرية، بينما كلمة «البيض» توصيف واقعى لأشهر أصناف السندويتشات التى اشتهر بها «صاحبنا» هذا! العاملون فى مهنتنا يعرفون جيدا أن مسألة الظهور فى الفضائيات أصبحت، ومنذ ست سنوات تحديدا، «سبوبة»، ومثل الصحافة، مهنة من لا مهنة له، وباب رزق مفتوح لكل من هب ودب، سواء من يحصل نظير ذلك على مقابل مادي، أم من يسعى فقط للشهرة و«تسليك» مصالح أخرى، يستثنى من ذلك بالتأكيد تلك القنوات التى لا تزال تتحرى عن هويات ضيوفها وعلاقة تخصصاتهم بموضوع الحلقة التى سيتحدث فيها، وعلى رأسها، والحق يقال، قنوات التليفزيون المصرى الرسمية، وهذه شهادة لابد منها، لأن الوضع على الفضائيات الخاصة مفتوح على «البحري»، والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصي، ولا عزاء للرأى العام الذى يشارك هؤلاء فى تشكيله.. قال رأى عام قال!! طبعا، النتيجة الطبيعية لهذه الفوضى «بلاوى زرقا» يوميا، وتلويث لعقول الناس، من خبير سياسى يصف رئيسا أنقذ بلدا بكامله بأنه مجرد «موظف»، إلى خبير اقتصادى يرى ملء البطون أهم من مستقبل بلد، وخبير استراتيجى يعتبر نظرية المؤامرة حجة للبقاء فى السلطة، وخبير مصرفى يحلف بالطلاق أن مشكلات اقتصاد مصر «ممكن تتحل فى يوم»، وخبير اجتماعى يرى كل رجال الأعمال «حرامية»، والحرامية «غلابة»، وخبير رياضى يرى الألتراس «ولاد ناس» وكوبر «مدرب الفتة»، ونهاية بعالم دين يحدثنا عن «رضاعة الكبير»، أو «مضاجعة الوداع»! وفى هذا السياق، أذكر تجربة شخصية تعرضت لها مع إحدى هذه الفضائيات، فقد كنت ذات يوم مدعوا، وبإلحاح، بحكم عملي، للحديث على الهواء عن حدث سياسى مهم جدا فى دولة أوروبية، وبعد وصول الكاميرات، فوجئت بنفسى «ملطوعا» لفترة فى انتظار الظهور على الهواء، بحجة أن القناة لديها مداخلة مهمة عبر سكايب مع «محللة» مقيمة فى هذه الدولة الأوروبية، لا أعرف عنها سوى أنها «قاعدة هناك»! طبعا، ما كان مني، احتراما لمهنتى ولنفسي، سوى أن اعتذرت عن عدم الانتظار أكثر من ذلك، وطلبت من طاقم القناة مغادرة المكان فورا، وحذرتهم من محاولة طلب استضافتى على شاشاتهم مرة ثانية! وإلى الآن، مازلت أضرب كفا بكف كلما استمعت أو شاهدت ضيفا أو متحدثا فى قناة إذاعية أو تليفزيونية يتكلم فيما لا يعنيه، ويقدم نفسه على أنه خبير و«جامد قوي» فى المجال الفلانى والتخصص العلانى بغير حق، والمذيع أو المذيعة «مبهوران» بما ينضح به من معلومات وأرقام وآراء، حتى وإن كانت مصادر «الأخ» لا تتعدى حدود مواقع «بير السلم» والسوشيال ميديا، ومؤهلاته بدلة وكرافتة وابتسامة و«بادى لانجويدج» وكام نكتة وقفشة، بينما نرى المتخصصين الحقيقيين جالسين فى منازلهم، أو منهمكين فى أعمالهم .. أعمالهم الحقيقية. «بلد بتاعة سندويتشات صحيح».. مع الاعتذار لدسوقى أفندى! لمزيد من مقالات هانى عسل